لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة

شعار ينتمي إلى الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت في كانون الأول عام 1987، تلك الانتفاضة التي استطاعت إعادة ترتيب المشهد السياسي في المنطقة بإطلاقها ما يعرف بعملية “السلام”، وما تمخض عنها من اتفاقيات سلام في أوسلو ووادي عربة، يرفض معظمنا الربط بين الانتفاضة وعملية السلام، وينظرون إلى الانتفاضة بوصفها فعلاً ثورياً طاهراً خالياً من الشوائب، في الوقت الذي تمثل فيه اتفاقيات السلام استسلاماً مدنساً بالخيانة.
لكن السياسة لا تعتد بالعواطف، فهي تتعامل مع الفعل السياسي في سياقه وضمن ظروفه، فالانتفاضة الأولى كانت فعلاً جماهيرياً ثورياً يعبر عن انسداد أفق العملية السياسية الثورية بعد اتفاقيات كامب ديفيد وغزو لبنان عام 1982، وخروج المقاومة الفلسطينية من محيط فلسطين.
ترافق ذلك مع بداية الحديث عن السلام مع العدو الصهيوني من خلال مبادرة الأمير فهد (الملك فهد لاحقاً).
جاء الفعل الثوري شاملاً لكل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ما رسخ لدى البعض، عن جهل أو تعمد، قناعة مفادها أن الشعب الفلسطيني يستطيع وحيداً إيصال الانتفاضة إلى الهدف المنشود؛ تحرير فلسطين.
كل الأدبيات والبيانات التي نقرؤها عن تلك المرحلة لا تشير إلى تحرير فلسطين كهدف نهائي للانتفاضة، بل نستطيع القول إن الانتفاضة الأولى لم تطرح هدفاً إستراتيجياً واضحاً، بقدر ما اعتبرت أن الانخراط الجماهيري الواسع في العمل الثوري يتيح المجال لخيارات سياسية متعددة، تعتمد على الدعم الخارجي العربي والدولي، والخطط والسياسات التي تعتمدها منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
لم يأت الدعم العربي المأمول، ووجدت قيادة منظمة التحرير في الاهتمام الدولي، النابع أصلاً من الحرص على مصالح “إسرائيل”، فرصة لفرض نفسها على الخريطة السياسية كطرف فاعل في الصراع العربي- الإسرائيلي.
لكنها في سعيها الحثيث لهذا الهدف اتبعت طريقاً انتهازياً اعتمد على تقديم التنازلات، والاختباء تحت عباءة الأنظمة الرجعية العربية، فجاءت النتائج متسقة مع المقدمات، وكانت السلطة الفلسطينية الهشة والصورية، والتي أصبحت سبباً في مفاقمة معاناة الفلسطينيين بدلاً من تخفيفها.
يعيش الشارع الفلسطيني اليوم ظروفاً لا تختلف كثيراً عن تلك التي سادت عشية الانتفاضة الأولى. الأفق السياسي مسدود تماماً، اتفاقيات التطبيع العربية ونتائج “الربيع العربي” تسحق أي أمل بدعم عربي لنضال الشعب الفلسطيني، التوسع الصهيوني في الاستيطان والقمع بلغ ذروة غير مسبوقة. يضاف إلى ما سبق حالة التشرذم الفصائلي في الداخل الفلسطيني، والانقسامات التي تبدو بلا نهاية. كل ذلك دفع الشباب الفلسطيني إلى حالة من الترقب والتوتر، كان لا بد وأن تعبر عن نفسها بانفجار وشيك.
جاء الانفجار على خلفية محاولة سلطات العدو إخلاء المنازل في الشيخ جراح، وجاء متفوقاً على أكثر التوقعات الإسرائيلية تشاؤماً، وأكثر التوقعات الفلسطينية تفاؤلاً.
اللقطة الأهم كانت اندماج الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة عام 1948 في الفعل الثوري بشكل كامل، وعدم الاكتفاء بالدعم والتأييد، كما حدث في الانتفاضتين الأولى والثانية، برزت الأحداث في مدينة اللد كعلامة فارقة في مسار الهبة الشعبية الفلسطينية، وكان طرد المستوطنين من المدينة ورفع العلم الفلسطيني في ساحاتها متغيراً مهماً في مسار الأحداث.
في محاولة للالتفاف على الموقف الفلسطيني الموحد، هرعت منظمات المجتمع المدني، ومراسلي وسائل الإعلام، محاولة نزع الصفة الثورية عمّا حدث، وتصويره على أنه مجرد احتجاج من السكان على إخلاء منازلهم، وخلاف قانوني على ملكية تلك المنازل.
وتابعنا عشرات التقارير التي تفند مزاعم الطرفين، وتقدم رواية تاريخية ما حول أصل حق ملكية المنازل، وتطرح حلولاً قانونية تعتمد محاكم دولة الاحتلال وقوانينها.
لم تستطع معركة سيف القدس، رغم أهميتها، تحقيق المعادلة المطلوبة بسبب الانقسام الفلسطيني وموقف سلطة رام الله المنحاز لـ”إسرائيل”.
وكذلك تسرّع الفصائل المنخرطة في المعركة في حصد نتائجها السياسية، ما أفقد نتائجها الكثير من الزخم الذي حققته، خاصة بعد تكرار الاقتحامات الإسرائيلية للأماكن المقدسة والمدن والبلدات الفلسطينية وغياب الرد الفلسطيني الذي وعدت به الفصائل الفلسطينية المنخرطة في معركة سيف القدس.
كانت عملية هروب الأسرى الفلسطينيين من سجن جلبوع، حدثاً لا يقل في أهميته عن أحداث الشيخ جراح، ومعركة سيف القدس.
لقد أدى إلقاء القبض على الأسرى المحررين إلى تزايد أدراك الجماهير الفلسطينية بأن القوى والفصائل السياسية، بما فيها سلطة رام الله، عاجزة عن حمايتها، وأن عليها المبادرة إلى حماية مصالحها ومواجهة الاحتلال من دون الدخول في لعبة الشد والجذب بين الفصائل والاحتلال.

برز في هذا السياق دور الحركة الأسيرة كقائد لهذا التحول النوعي في الفعل الوطني الثوري. فالأسرى المضربون عن الطعام لم يحرروا أنفسهم فقط، لكنهم حرروا الإرادة الشعبية الفلسطينية من أوهام انتظار تطورات العملية السلمية.
ما شاهدناه في جبل صبيح، وبيتا، ومخيم الأمعري، وحارات القدس القديمة، والخليل، وأخيراً برقة، من مواجهات مع قوات الاحتلال يتفوق على كثير مما شهدناه أثناء الانتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية.
في برقة وحدها تصدى الفلسطينيون (4500 مواطن) لموجات من المستوطنين، (11 ألف مستوطن معززين بقوات الاحتلال)، الذين حاولوا العودة إلى مستوطنة حوميش التي تمكن أهالي برقة من إخلائها عام 2005.
عشرات الشهداء ومئات المصابين والأسرى كل يوم، ورغم ذلك هناك إصرار غريب من الفصائل السياسية ووسائل الإعلام على إطلاق وصف مواجهات على ما يحدث في فلسطين، وكأن الجميع يحاول التنصل من هذه الثورة وتبعاتها.
إذا رجعنا إلى شريط الأخبار نجد أن الشعب الفلسطيني يخوض ثورة شعبية متصاعدة في كل مكان من فلسطين، لكنها ثورة بعيدة عن أيدي الفصائل الفلسطينية وحساباتها السياسية. هذه الثورة بحاجة إلى الدعم، وبالدرجة الأولى إلى الدعم الإعلامي، بتوسيع التغطيات الإعلامية، ونقل ما يدور إلى صدارة الأخبار.
كذلك نحتاج إلى البدء بالتخطيط الإستراتيجي لدعم هذه الثورة الشعبية، حتى لا تقع في براثن أصحاب الأجندات والأهواء ويكون مصيرها مشابها لمصير الانتفاضة الأولى.
كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار