سباق استرخاء واستفزاز
لو حصل وأثار أحد حائزي لقب باحث في بيولوجيا الأحياء، أو ساعٍ إلى اللقب، جدلاً حول التناغم الميكانيكي في حركة أربعة وأربعين طرفاً لحشرة الحريش العاضّ “أم أربع وأربعين، وجهاز التحكم الداخلي الذي يولّد هذا التناغم، وألحّ في توسيع دائرة النقاش لأقيمت للبحث ندوات وورشات عمل كثيرة، ربما بعدد أرجل الحريش ، وكل ماسيُقال فيها صحيحٌ، بل وعلى الأرجح سيصفق الحضور لآراء و”اكتشافات” سيعلن عنها أصحابها بكثير من الاعتزاز، إلّا أنّ ذلك المخلوق موضوع “التفكير الإستراتيجي” لن يكترث بكل ما يُثار حوله، فهو لم يهتم للأمر يوماً ولم تشغله أبحاث الدنيا كلّها..لأن مايعنيه في المحصلة أنه يسير ويتحرك برشاقة.
لعلّنا لن نلمس اختلافاً كثيراً بين مثل هذا الجدل بندواته وورشاته، والندوات التي تبررها عبارة “عصف ذهني” وتُعقد حلقاتها الساخنة حول مختلف مسائل التنمية لدينا، وتكون “إعادة اختراع الدولاب” العنوان الأبرز لمخرجاتها.
هي دوامة سريعة أخذتنا وأُخذنا بها على مايبدو، لتمسي ظاهرةً كرنفالية أكثر مما هي فنيّة علمية ذات أثر مباشر، وليس في هذا غرابة – على الرغم من غرابته – بما أنّ ألف باء التنمية بكل خباياها وخفاياها لم تعد بخافية على بلدٍ، لم يترك نموذجاً اقتصادياً إلّا وجرّبه، إلّا “التجربة السورية” بقيت مطرح تجاهل لم نفهمه ولم نجد من يساعدنا على التقاط سبب مقنع له.
الآن لم يعد ثمة مجال لطول السير والجدل و”الجلد”، بما أننا استهلكنا كافة المساحات المتاحة للنقاش والاسترسال، ولا لنوبات الاستعراض الحادّة التي تعتري الكثير ممن يدّعون التفكير بصوت عال، وبتنا أمام خيارين.. الأول: أن نكفَّ عن تشتيت انتباه وإحباط من يرغب بالعمل فعلاً.. والثاني: أن ننسى استحقاقات كثيرة لم تعد تسمح لنا ببعثرة الوقت، ونتفرّغ لجولات اللهو الذهني – لا العصف الذهني – كما يحب أن يسميها بعضنا.
لم يبقَ في مسائل التنمية كيمياء معقدة ولا فيزياء، فلا الراغبون بتأسيس مشروعات أسرية ينتظرون من يعلِّمهم كيف عليهم أن يعملوا، ولا الطامحون لمشروعات صغيرة ولا متوسطة ولا ثقيلة، ولا الصناعيون ولا التجار، ينتظرون استشارات ونصائح من أحد لصقل مهارات أمست شبه غريزية لديهم.
لم تبقَ شاردة أو واردة إلّا وتمَّ بحثها حتى الملل.. فالعلل معروفة ومثلها الحلول، وكل إطالة في البحث تغدو مضيعة للوقت.
نذكر في العام 2009 أنّ مهرجانات تفكير صاخبة واجتماعات سرية وعلنية، أديرت لتطوير قانون عصري ينظم المنافسة ويمنع الاحتكار، كمكمل لبيئة اقتصاد السوق الوافد الجديد إلينا آنذاك، وفي المحصلة اكتشفنا – من خلال أستاذ “أكاديمي” – أنّ القانون منسوخ بنسبة 40٪ عن شبيه له معمول به في دولة عربية ممسوخة الخبرة والخبراء و”الإمكانات والعراقة والأصالة والحداثة” أمام ما لدينا في سورية.. والأمثلة على مخرجات مشوهة كهذه باتت متعددة وموجعة.
التنمية بكل مساراتها تحتاج إلى تلبية متطلبات لا محاضرات ولا ندوات، لتنطلق بأدوات وروّاد محترفين و حتى هواة، لا يحبون التنظير في القاعات المغلقة لأن مكانهم في الهواء الطلق، وللهواء الطلق وميادين العمل والإنتاج مفرداتُها التي يفهمها هؤلاء جيداً.. والندوات والمحاضرات بشأنهم باتت محاولة انتصار عليهم لا انتصار لهم.