المغامرة الأمريكية في أوكرانيا

ما يجري في أوكرانيا يعبّر عن جذر المسألة الحقيقي في التدخل الأمريكي السافر في شؤون هذه الدولة التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الاتحاد السوفييتي السابق والتي انسلخت عنه نتيجة الهيمنة الأمريكية في الشؤون الداخلية للدول المحبة للحرية والسلام، من أجل نهب ثرواتها واستعباد شعوبها رهينة لصالح الغرب الأوروبي.
عندما انهار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 أعلنت جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق استقلالها عن موسكو تحت تأثير النخب الفاسدة، وبصورة مباشرة بفعل دعم الغرب الرأسمالي لها، ونظراً لأن النوع نفسه من الإصلاحيين الموالين للغرب كانوا مسؤولين في الحكم، وفي تسعينيات القرن العشرين اعترفت روسيا بسهولة بالكيانات الجديدة داخل الحدود المصطنعة كلياً التي كانت تابعة لديها مع الاتحاد السوفييتي، إذ لم يكن في الاتحاد السوفييتي للحدود نفسها معنى، وتم رسمها فقط من أجل تسهيل الإدارة الإدارية (كمقاطعات في الدولة نفسها)، لذا فبدلاً من دولة الاتحاد السوفييتي الوحيدة، التي ظهرت بدلاً من دولة واحدة أخرى هي الإمبراطورية الروسية، التي جمعت كل هذه الأراضي والشعوب معاً كان هناك 17 دولة جديدة، معظمها تقريباً لم يكن موجوداً، على الأقل مثل هذه الحدود، ومعظمها لم يكن موجوداً على الإطلاق، (هذه الدول) ظل معظمها موالياً لروسيا، ووقع البعض الآخر تحت تأثير الغرب، واتخذ موقفاً مناهضاً لروسيا بشدّة للأسف، وأوكرانيا تنتمي للفئة الثانية، وقد ظهر الشرق الأوكراني في مقابل الغرب الأوكراني، ظهر في كل أوكرانيا الجديدة، وكان هناك اتجاهان، الغربي والشرقي، يقاتلان بعضهما بعضاً، ويمكن رؤية ذلك في الخرائط الانتخابية، حيث صوّت الشرق الموالي لموسكو لبعض المرشحين، وصوّت الغرب الموالي للغربي و«الفوبيا» من روسيا دائماً لصالح البدائل الجديدة للغرب.
هكذا أصبحت أوكرانيا بين خطي التجاذب الروسي وهو الشرعي، والأمريكي وهو المتسلط على مقدرات الشعوب، ومع وصول الرئيسة جو بايدن إلى الرئاسة الأمريكية مع مجموعة من متطرفي العولمة والأطلسيين والمحافظين الجدد ومؤيدي إنقاذ نظام عالمي أحادي القطب بأي ثمن، وهؤلاء أنفسهم الذين حرّكوا احتجاجات ميدان (كييف) في عامي 2013- 2014، لذلك بدأت جولة جديدة من التصعيد، فروسيا متهمة بالتحضير لغزو أوكرانيا، بهذه الذريعة ستقوم واشنطن بتسريع اندماج أوكرانيا في حلف الـ«ناتو»، ونحن نعرف كما يعرف السياسيون أنه لم يكن لدى روسيا أدنى نية لحل الموقف بالوسائل العسكرية، لكن الاستفزازات العسكرية الأمريكية لم تترك لها خياراً، كما صرّح بوتين ولافروف وغيرهما من كبار المسؤولين الروس مراراً في الآونة الأخيرة، وأعلن بوتين أن اندماج أوكرانيا في الـ«ناتو» إلى جانب نصف السكان الذين يعدّون أنفسهم شعباً واحداً مع الروس، يمثل عبوراً إلى «الخط الأحمر»، وإذا فشل الغرب في الاستجابة لهذا التحذير فلا يمكن استبعاد اندلاع صراع عسكري.
وإذا أخذنا مشكلة أوكرانيا من ناحية الجغرافيا فنجد أنها بين فكّي روسيا وحلف الـ«ناتو» منذ أصبحت معضلة أوكرانيا في الجغرافيا معضلة الضحية منذ دخلت في دوامة لا متناهية، فكلما استظلت بالمظلة الأطلسية زادت التهديدات الروسية لها، فروسيا تعتبر توسيع حلف الـ«ناتو» شرقاً تهديداً لأمنها على غرار التهديد الكوبي للولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب الباردة، وهناك ظهور الواجهة الأكثر تعقيداً في الأزمة الأوكرانية، وهي كلما تأزمت العلاقة بين الغرب وروسيا، عادت قضية الغاز الطبيعي (نورد ستريم2) إلى الواجهة بشكل يضع كل مرة ألمانيا تحت الضغط، ولاشكّ في أن واشنطن ستكون حريصة على وفاء برلين بالتزاماتها بشأن هذا الملف الحساس، بموجب اتفاقية تسوية أبرمتها ألمانيا مع الولايات المتحدة الأمريكية تعهدت فيها برلين بدعم أوكرانيا، ولاشكّ في أن الكرملين قد سجل تغيير لهجة وزيرة الخارجية الألمانية الجديدة (أنالينا بيربوك) وصرامتها تجاه روسيا بشكل عام وموقفها الرافض لخط أنابيب (نورد ستريم2) في شكله الحالي.
وبنظرة فاحصة في السياسة الأمريكية، يرى عدد من الخبراء السياسيين أن سيناريو الحرب بين روسيا وأوكرانيا لا يزال نظرياً إلى الآن على الأقل، وفي حال تحقق سيشكل إحدى أكبر الانتكاسات للسلام العالمي في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم أن موازين القوى العسكرية تميل بشكل واضح لصالح روسيا، ليس من ناحية القوة العسكرية التقليدية فقط، ولكن أيضاً باعتبارها قوة نووية معترفاً بها دولياً، غير أن أوكرانيا تعدّ بدورها قوة عسكرية إقليمية لا يُستهان بها.
أكاديمي وكاتب عراقي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار