مشكلة الآخر والنزعة البرّية حين “تتسيّف” بالمفهمات

عقبة التلقي والهلوسة تجاه المختلف، هل يوجد باحث مستقل؟
استقلال المثقف خرافة، والأخرف من ذلك الخلط بين الانتماء والموضوعة.
عادة ما يجهل البعض المائز بين الموضوعية والاستقلال أو التجرّد، فيكون أفق توقعهم من النصوص جامداً، لأنهم أعجز ما يكونون عن الاشتباك مع تفاصيل الفكرة, هنا نكون إزاء ظاهرة من ظواهر التّلقي، يكون فيه المتلقّي مفسداً للمعنى، مهجوساً مهلوساً محكوماً بضرب من الثّباتية المزمنة، لأنّه أسير توقّعاته التي تقدحها أوهام التربية والتصنيف ووظيفة الاستبعاد.
يجهل معظم الذين يخلطون بين الموضوعية والتجرد، بأنّ الموضوعية ليست استقلال المُخاطِب، بل هي تعاقد على إنجاز ما في سياق وشروط محددة، وبأنّ المتلقي المفسد للمعنى يمنح عدم استقلاليته المحددة لأفق توقّعاته الحق على المُخاطِب، وهكذا يصبح المتلقي عقبة في صيرورة تشكل المعنى، وهو ما اصطلح عليه بعقبة التّلقّي.
لا نستبعد عنصر سوء النّية من هذا الميل التبسيطي، لأنّه لا يشكّل موقفاً عامّاً، ولاسيما حينما نجد المتلقي نفسه يبدي استسلاماً مطلقاً لنصوص يدخلها بتوقعات استحسانية مسبقة.
الحديث عن التجرد والاستقلالية خطأ فادح، لأنّ الجري خلف الاستقلالية خرافة تكذبها المقاربة السياقية: الاجتماعية والتاريخية، لا يوجد مستقل، والتجريد خرافة حتى حين يتعلق الأمر بالتجريد الرياضي، فكيف بكائن هو ابن كتلة من التربية والتنشئة والكيد والمصالح المرسلة وغير المرسلة، وحقل ملغوم بالعلامات، يتواطأ فيها الوعي واللاّوعي، فمن لا ينتمي إلى قبيلة أو دين أو ملّة فهو ينتمي لهواجسه الميلونكوليكية ومصالحه الأنانية، فإذن ما العمل؟ الموضوعية أو الواقعية هنا تتحدد في أنّ التخاطب تعاقد، خارج قوالب ومقالب المفاضلات اللاّواعية, لو تتبعنا أهل الفكر من جهة الاستقلال، لما بقي في أيدينا منهم سوى الأشباح، فانظر إليهم، فمعظمهم من ملل شتّى، وحساسيات كثيرة، وخلفيات مختلفة، هذا حال ديكارت وهيغل وصولاً إلى هيدغر سليلي تربية لاهوتية وملتقيّ نزعات شتى أغنت تجربتهم، وهو حال فرويد ودوركهايم وماركس وليفيناس وديريدا وادغار مران وليفي ستراوس الخ، لو حاسبناهم على انتمائهم وسلالتهم وتنشئتهم وفلتات ألسنتهم لما بقي للأمم رصيد من علم ولا فهم, وإن قلت إنهم متجردون، فأنت جاهل بالأزمة التي دفعت بميلاد الفلسفة التأويلية وسوسيولوجيا اللغة وفلسفتها والتداوليات وعلم النفس وعلم اجتماع المعرفة ونظرية التّلقي..
وفي البيداء العربية، سيكون من السخف الحديث عن الاستقلال، بينما هم موزعون على انتماءات قبلية وحزبية ومذهبية ودينية ومصالحية شتى، بحيث من قال غير ذلك فقد لغا, فانظر في هذه البيداء فستجد هناك العروي المسلم العلماني، والجابري المسلم وطرابيشي المسيحي العلماني وحنفي المسلم المعتزلي وعلي حرب المسلم التفكيكي ومهدي عامل المسلم اليساري وحسين مروة المسلم اليساري وجورجي زيدان المسيحي وشكيب أرسلان المسلم الإصلاحي وجمال الدين الأفغاني المسلم النهضوي وعلي الوردي المسلم وهلم جرّا.. الاستقلال وهم، والبحث عنه غباء.
تقتضي الموضوعية عدم الوقوف عند الانتماء إلاّ كقيمة ذاتية قد تشكل عنصر إغناء للموضوع، فهذا هو شرط الكونية ألا يكون القارئ بمثابة الأجرب الهارب من المختلف، فالعالم يفيض بالتعددية، وما كان هنا أقليٌّ فهو في مكان آخر أغلبي، والمعرفة لا تتقوم بقدرية سايكس بيكو، والكونية والكيد لا يلتقيان، والديمقراطية والتحسس من الآخر لا يجتمعان، فما أكثر مفارقات الأجرب الحيران في عالم مزدحم بالخلاف.
لا طريق للقضاء على هلاوس الآخرية إلاّ بحسن النية والشجاعة، فالذي يرتاب من الآخر، ويتساهل في أحكامه تجاهه، هو في آن معاً سيّئ النية وجبان، والديمقراطية تربي على الشجاعة من أجل العيش المشترك، أو بتعبير آخر: (طوّل بالك، رولاكس، لا تخاف).
نعم، حينما يكون الانتماء ارتزاقاً على حساب المعنى، واصطفافاً مؤدّى عنه لا قناعة مُعاشة، وهاجساً تقدحه دكاكين وظيفية، هنا يكون الانتماء أيّاً كان لونه وشكله خطراً على الفكر وعلى المحتوى، وهنا ينتصب السؤال: من أنت؟.
الموضوعية تعاقد، وإنجاز، وليست تجرد. والشرط المطلوب هو الإخلاص للمعرفة، والعدالة والإنصاف، والتقيد بمفهمة ناجزة، ومنهجية واضحة، وأي موقف غير هذا هو نزعة بدائية، وتوقعات ساذجة، ومهزلة من مهازل الجهل الذي خيّم على العالم العربي، ولاسيما في عصر التّفاهة.

ثم نأتي لتشريح هذه النزعة البرّية التي تهدد المجتمعات بالعنف الرمزي والمادي بسبب ضيق الأفق والجهل بمتطلّبات العيش المشترك، إنّ الهلاوس الناتجة من الآخرية، لها أكثر من تفسير: – هناك الأسوأ من كل ذلك، البعد الوظيفي لهذه الهلاوس المفتعلة، تفضحها الازدواجية في الموقف من الآخر، ليس الأمر هنا يتعلق فقط بتفضيل آخرية على أخرى، بل التلوّن في الموقف داخل الآخرية الواحدة، كمن يتحسس من مختلف هنا ويعانق مختلف من

الملة نفسها هناك، بحسب المصلحة، وهذا، القسم هو قسم وظيفي، يفضحه التلون وازدواجية الموقف، والتمسرح في تمثل خطابات التسامح والانفتاح في ميادين أخرى.
– هناك الخوف البدائي البريميتيفي من الآخر، وهو امتداد لنزعات ما قبل المجتمع الحديث والمفتوح.
إنّ الهلاوس التي يثيرها الآخر لدى أصناف تنصّب نفسها حارسة الهوموجينية الفاشيستية بلا وكالة، هي ضرب من العنف والإرهاب الذي يمارسه هذا الصنف من الوظيفيين،وهم الأخطر، فالمتحسسون من الآخر والحاطبون ليلاً في غابة المغالطة، هم عدوانيون ميلونكوليكيون وإره*ابي*ون متخفون خلف خنصرهم، وجزء من الكآبة التي ابتليت بها المجتمعات المتخلّفة.
إنّ آلام الإنسان تبدأ حين ينازعه الآخر على تكوين صورته وتحديد نمطه، الآخر الجحيم الذي ينسى انتماءاته ومصالحه وتخندقاته، في حالة استغباء للمتلقّي، ليتبالد في رسم صورة نمطية عن الآخر عبثاً، بثمن بخس العالم قائم على الاختلاف، ولا أحد موكّل على تحديد أي شكل من الاختلاف يجب أن يكون، العالم والأفكار والأطر هي قبل الإنسان، والعدوان يبدأ لما يصبح الآخر موضوع هلوس ومرض وفرصة للاسترزاق بتنميطه. الانهجاس بالآخر وباء كالطاعون، ولا يمكن أن يحترفه إلا كائن صفراوي دخيل على المعرفة وعلى الرّقيّ بمدلوله الحضاري، الرقي الذي ما زال ينأى عنّا، نتيجة توحّشنا المزمن.
كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار