عالمٌ من الوقاحة

في حزيران 2021 انطلقت في بريطانيا محكمة الإيغور الصينيين تحت شعار:« النظر في مخالفات مزعومة لحقوق الانسان ترتكبها الصين بحق المسلمين الإيغور». يرأس المحكمة جيفري نايس المدعي العام السابق لشؤون جرائم الحرب لدى الأمم المتحدة، وتدّعي الحكومة البريطانية أن لا علاقة لها بأعمال المحكمة المذكورة، في حين تشير الأنباء إلى أن حكومات المملكة المتحدة وأستراليا والولايات المتحدة أعربت عن استعدادها لتزويد المحكمة بوثائق وأدلة حسّية حول المخالفات المزعومة.
بعيداً عن المصادفة التي تجمع تلك الدول الثلاث في حلف «أوكوس» المعادي للصين، وعن المفارقة التي تحملها رئاسة جيفري نايس للمحكمة، وهو الذي لم يستطع مع منظمة الأمم المتحدة رؤية المجازر التي نُفذت ضد الفلسطينيين، والعراقيين، والليبيين، والسوريين، وتمارس بوحشية منقطعة النظير ضد اليمنيين. فإن الخبر لا بدّ أن يثير بعض الاستغراب، فهذه الدول تعدّ الإيغور الموجودين في سورية إرهابيين، وتبرر حضورها العسكري على الأراضي السورية بمحاربة الإرهاب الذي يشكل الإيغور الصينيين أحد أطرافه، ويصعب على بعضنا فهم هذا التناقض، وكأنه التناقض الوحيد في الملف الانساني الرأسمالي.
أحد الصحفيين الأجانب، علّق على الهجمة الإعلامية التي رافقت قضية الروهينغا في ميانمار أن الإسلام والمسلمين يشكلون أكثر بضاعة رائجة إعلامياً وسياسياً في عالم اليوم. لا يختلف ذلك إذا كان تصويرهم على شكل إرهابيين أو ضحايا، فكلا الشكلين له أنصاره. من جهة يقف أنصار «الإسلاموفوبيا» الذين يربطون كل شرور العالم بالمسلمين، وعلى الضفة المقابلة تقف الآلة الإعلامية للإسلام السياسي، وبعض الدول التي ترغب بإشغال شعوبها عن قضاياها الداخلية، فتصور المسلمين كمستهدفين “بشكل حصري” في كل الحروب والمؤامرات التي تدور في العالم.
المحكمة إذاً ليست سوى جزء من المواجهة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة والصين، وهي حرب تجارية في جوهرها. قد لا يعجب هذا الاستنتاج الكثيرين، وخاصة دعاة حقوق الإنسان، وبعض ضحايا الآلة الإعلامية الرأسمالية بنسختيها العالمية والمحلية. على الواقع تضم الصين 55 قومية أكبرها قومية «الهان» التي تشكل 92% من السكان، يتوزع المسلمون في الصين على عشر قوميات ويشكلون حوالي 4% من سكان البلاد. أشهر هذه القوميات «الهوي» و تتكون من العرب والفرس الذين قدموا مع الفتح الإسلامي للصين، وينظر إليهم كأبناء الصين المسلمين لما قدموه من تضحيات في سبيل وطنهم، أما قومية الإيغور فتتوزع على الصين وكازاخستان بشكل رئيس، ويبلغ تعدادها في الصين حوالي 11 مليون نسمة. يعدّ الإيغور أنفسهم أتراكاً، وقد سبق أن أسس ستالين قبل عام 1949 جمهورية تركستان الشرقية، كإحدى الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفييتي. يعيش معظم الإيغور في حوض تاريم في إقليم شينجيانغ، وتوجد بينهم بعض الحركات الانفصالية التي تطالب بالاستقلال عن الصين.
يشكل موضوع حقوق الإنسان في الصين أحد أهم الملفات التي تلجأ إليها الدول الغربية لتبرير فرض المزيد من العقوبات على الصين، وآخرها كان مقاطعة أولمبياد بكين الشتوي دبلوماسياً. قبل ذلك كان موضوع سكان إقليم هونغ كونغ يتصدر الأخبار بعد موافقة حكومة الإقليم على اتفاقية لتبادل المطلوبين قانونياً. بعد انتهاء الاضطرابات في هونغ كونغ، طفت على السطح قضية الإيغور، تتحدث التقارير «الإنسانية» عن منع الطالبات والموظفات المسلمات من ارتداء الحجاب في المدارس والوظائف الرسمية، وعن إجبار المسلمين على تلقي مبادئ الحزب الشيوعي الصيني في معسكرات للشبيبة مدتها سنة، وتقارير عن تحديد النسل في الصين وتصويره على أنه يستهدف المسلمين بشكل خاص.
في المقابل لا نجد تقارير تتحدث بالحدة نفسها عن منع فرنسا ارتداء الحجاب في مدارسها ووظائفها، ولا عن الممارسة نفسها في مقاطعة كيبيك الكندية، ولا تستنكر مؤسسات حقوق الإنسان المرتبطة بالغرب مطالبة الولايات المتحدة بتسليم جوليان أسانج المتهم بخرق القانون الأميركي، أو مطالبة كندا بتسليم المواطنة الصينية منغ وانزو ابنة مؤسس شركة هواوي، بتهمة خرق قانون أميركي (لا يمتلك أي شرعية دولية) يقضي بفرض عقوبات على إيران.. هذه المطالبة أدت إلى اعتقال وانزو في كندا لمدة 3 سنوات قبل أن يطلق سراحها مقابل إطلاق الصين سراح جاسوسين كنديين.

الولايات المتحدة تطالب باعتقال مواطنة صينية بحجة مخالفتها قانوناً أميركياً، وتعدّ هذا الإجراء تحقيقاً للعدالة بمفهومها الرأسمالي، في حين تعدّ نفس الدولة، والكونغرس التابع لها أن مطالبة الصين تسليم مواطن صيني خالف القوانين الصينية خرقاً للعدالة واعتداء على حقوق الإنسان. هل يمكن أن نتخيل وقاحة رأسمالية أكثر من ذلك؟ أمر صعب، لكن الواقع يقول إن الرأسمالية تذهب أبعد من ذلك بكثير.

فالولايات المتحدة تشترط على الدول التي تستضيف قواعدها إعفاء العسكريين الأميركيين من أي تبعات قانونية ناجمة عن الأفعال التي يقومون بها (رغم ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية) بما في ذلك مخالفات السير، وتتمادى الإمبريالية الأميركية في وقاحتها فتخرج المتحدثة باسم البيت الأبيض الأميركي لتتحدث باسم شعب نيكاراغوا، فتعلن أن قرار الرئيس النيكاراغوي سحب الاعتراف بتايوان يمثل الحكومة ولا يمثل الشعب.
على الجانب الأوروبي، يحتشد اللاجئون في ظروف جوية قاسية على الحدود بين فرنسا وبريطانيا، ويتعرضون لقمع السلطات الفرنسية، ويغرق المئات من اللاجئين قبالة سواحل إيطاليا وأسبانيا، ويحاكم من يساعدهم على النجاة من المحتوم، لكن الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات على بيلاروسيا بسبب محاولة اللاجئين العبور إلى دول الاتحاد عبر الحدود مع بولندا.
لن تتسع الصفحات لتعداد حالات التناقض الوقح للرأسمالية، لكن المهم أن تتعلم الشعوب الدرس، وأن تعرف بأن الرأسمالية بكل أشكالها وصفاتها هي العدو الأول لكل شعوب العالم بمن فيها شعوبها. وأن أخطر سلاح بيد الرأسمالية هم أولئك الماكرون والسذج الذين يحاولون إقناعنا أن الطريق الرأسمالي هو الطريق الوحيد نحو الهدف.
لقد استطاعت الصين شق طريقها إلى صدارة الاقتصاد العالمي متبعة طريقاً غير رأسمالي، وما زالت مبادئ الحزب الشيوعي الصيني تدرّس في المدارس والجامعات، لتقدم لكل المتضررين من الرأسمالية مثالاً يُحتذى وطريقاً يصل إلى الهدف دون الاستسلام للعدو. ونحن كأمة أكثر المتضررين من وحشية الرأسمالية ونزعتها الإمبريالية، لذلك علينا أن ندرس واقعنا وأن نبحث عن وسائل لنهضتنا بعيداً عن القدر الرأسمالي المسلط علينا، وعلينا أن نتذكر دائماً بأن الدرب الرأسمالي لا يقود إلا إلى الهلاك.
كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار