العرب و«إسرائيل».. من الصراع السياسي إلى الاقتصاد

في 24 تشرين الأول من عام 1973 خرج الإرهابي الصهيوني افرايم كاتسير (رئيس الكيان الإسرائيلي 1973-1974) في كلمة متلفزة معترفاً: «ما بين 1967 و1973 كنا نعيش في نشوة لم تكن الظروف تبررها، بل كنا نعيش في عالم من الخيال لا صلة له بالواقع.. وهذه الحالة هي المسؤولة لأنها كانت قد تفشت في كل المجالات».. والاعتراف جاء بعد مرور ثلاثة أسابيع تقريباً على بدء حرب تشرين التحريرية في السادس تشرين الأول 1973.

المقصود من اعتراف كاتسير هو أن الكيان الإسرائيلي فهم الدرس من وراء هزيمته المريرة في تلك الحرب، وبالتالي لا بد من التحول من الأسلوب العسكري إلى أساليب أخرى في إدارة ” الأمن الإسرائيلي”، وعلى رأسها الاقتصاد، أي لا بد من انتقال المخطط الصهيوني العام تبعاً لذلك ليصبح الاقتصاد والهيمنة الاقتصادية في المقدمة، وليكون الهدف الرئيسي المطلوب تحقيقه لإنهاء الصراع مع العرب، وبحيث لا يكون هناك حرب مماثلة لحرب تشرين 1973.

انتقلت “إسرائيل” إلى مخطط غزو أسواق المنطقة التي تتميز بقدرة استهلاكية ضخمة لناحية الجغرافيا والديموغرافيا، معتمدة في ذلك على عمليات التسلل والاحتيال، واختيار وسطاء غير معروفين يتسللون إلى هذه الأسواق، يعقدون الصفقات، ويقيمون المشروعات الضخمة، وحتى أنهم يقدمون القروض، ويحاولون من خلال ذلك الهيمنة على الدول اقتصادياً، فإذا ما تم كشفت هويتهم ولصالح من يعملون، يكون الأوان قد فات، وتكون الدول قد تورطت بالفعل اقتصادياً وبما لا تستطيع معه الفكاك، لتجد نفسها مجبرة في نهاية المطاف على القبول بهذه الهيمنة.. وطبعاً كانت ثروات المنطقة من النفط والغاز في قلب المخطط الإسرائيلي.

في تسعينيات القرن الماضي استطاع الكيان الإسرائيلي تحقيق جزء من هذا الهدف، خصوصاً مع اتفاق أوسلو 1993. وشهد الصراع العربي- الإسرائيلي أولى وجوه تحوله إلى مسار اقتصادي، بمعنى دخول الكيان الإسرائيلي على خطوط الاقتصاد في أكثر من دولة في المنطقة بصورة يمكن تسميتها نصف علنية، وذلك في ترجمة على الأرض لما قاله كاتسير، ولما قاله ديفيد بن غوريون نفسه قبل كاتسير، حيث قال أمام الكنيست في 21 شباط من عام 1952: «هناك ثلاثة أوجه لمعركة إسرائيل مع العرب، أحدها عسكري والآخر سياسي، والثالث الاقتصادي.. وحتى اليوم لم يكتمل لإسرائيل أي من تلك الوجوه الثلاثة».

ما من شك أن عقد التسعينيات فتح باباً اقتصادياً واسعاً للكيان الإسرائيلي وبما يربط اقتصاده مع اقتصاديات بعض الدول، حتى بات الحديث عن حل الصراع العربي- الإسرائيلي حديثاً اقتصادياً بالدرجة الأولى -في تجاهل طبعا لجوهر الصراع- عبر طرح ما يسمى “السلام الاقتصادي”، ودخول شركات ومنظمات أميركية على خط هذا السلام عبر تقديم عروض اقتصادية على الفلسطينيين، وبعض هذه العروض تحقق فعلاً وتحول مع الوقت إلى مصدر دخل رئيسي، مثل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية «USAID» والتي يقال الكثير في أهدافها ونياتها المشبوهة.. كل ذلك على قاعدة المزاعم بأن السلام الاقتصادي هو مدخل للسلام السياسي ولعودة حقوق الشعب الفلسطيني.

هكذا تسلل الكيان الإسرائيلي اقتصادياً إلى الأسواق العربية، ومنه إلى الكواليس السياسية حتى غدا الحديث عن التطبيع أمراً عادياً، وحتى تقديمه من باب حماية المصالح والحقوق الفلسطينية، ومزاعم تسهيل إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة بمرتكزات اقتصادية قوية.

لكن الخبراء والمراقبين يحذرون من أن هذا التسلل الاقتصادي الذي بات علنياً لن يلبث أن يتحول إلى صراع ستقوده إسرائيل للهيمنة والسيطرة على المنطقة ومقدراتها الاقتصادية وبما يعيد رسم الخرائط السياسية لخدمة هذه الهدف الذي يتضمن أيضاً طمس قومية الصراع  والتأثير أو النيل من العروبة  كرباط يوحد دول الأمة ويجمعها تحت سقف المصالح والمصير والمستقبل المشترك.. ليكون البديل هوية إقليمية متعددة الجنسيات  وسط نزعات عرقية وغيرها.

أيضاً يحذر الخبراء والمراقبون من أن الكيان الإسرائيلي بما يتمتع به من غطاء أميركي، وبما حققه من مصالح ومطامع بفضل اتفاقات السلام والتطبيع، قد يتحول فعلياً إلى المسيطر والمهيمن اقتصادياً في المنطقة إذا لم يتأهب العرب مجدداً ويعيدوا حساباتهم ويتجاوزوا أزماتهم لمصلحة أن يكونوا يداً واحدة في الصراع الاقتصادي الذي يكاد يُنهي جولته الأولى لحقبة «ربيع عربي» مشؤوم ما زال العرب يتخبطون في أتون عواقبه ومآلاته.

كاتب وأكاديمي من العراق

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار