خيار أبلوموف.. والهزيمة المحتومة
أبلوموف إقطاعي روسي يعيش في العاصمة الروسية على ريع إقطاعيته، يقضي ليله ونهاره مستلقياً على أريكته لا يحرك ساكناً، كل ما يفعله أنه يحلم.. يحلم بالملابس الجميلة والطعام اللذيذ، على مدى 200 صفحة نتابع مع الكاتب إيفان الكسندر غونتشاروف محاولات أبلوموف لاستجماع قواه والتحرك عن أريكته.
في خلفية الرواية، نرى أن أبلوموف تعبير عن عجز الواقع الروسي في نهايات القرن التاسع عشر، وعدم قدرته على مجاراة التغييرات التي تحدث داخله أو حوله، لقد وصل ذلك الواقع إلى حالة من الموت والتحلل جعلت تدميره ممكناً، ومهدت لمجموعة من الثورات المتتالية، والتي جاءت ثورة أكتوبر الاشتراكية 1917 تتويجاً لها، لم تكن الثورة نفسها وليدة لحظة ثورية منقطعة تاريخياً، أو تعبيراً عن إرادة سياسية عبر عنها قرار الحزب الشيوعي، لقد كانت نتيجة لتحليل جدلي للواقع وصل إلى نتيجة مفادها أن القديم وصل إلى نهايته، وأن الواقع أصبح مواتياً لولادة الجديد، فكانت الثورة.
في وطننا نقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة؛ مرحلة اندحار فلول “الربيع العربي”، ما زال القديم التابع للاستعمار والمستمد شرعيته منه يقاوم تبعات الهزيمة، ويستخدم كل أسلحته لمنع ولادة الجديد المنتظر، من ناحية يحاول البترودولار إحكام سيطرته على اقتصاديات دول المنطقة، فينتقل من دولة إلى أخرى، يفرض مشروعاً هنا، وتطبيعاً هناك، وبضع مليارات من الدولارات في البنك المركزي لدولة ثالثة، وعقوبات وحرمان لمن يجرؤ على انتقاده أو يحاول التمسك بسيادته الوطنية.
من ناحية أخرى يشتري النظام القديم الحماية من الدول الاستعمارية، سواء بتقديم المال مباشرة إلى هذه الدول، أو بالالتجاء إلى حضن الكيان الإسرائيلي بصفته ممثلاً للمصالح الاستعمارية في المنطقة، أو على شكل صفقات أسلحة ضخمة، لا تحارب بها عدواً، بل تصبها حمماً على رؤوس الأبرياء في اليمن وسورية وليبيا.
كلما أمعن النظام القديم في محاولاته المستميتة، ازداد إدراكنا لأزمته ومدى هشاشة بناه التي تتداعى تحت وطأة هزائمه المتوالية، لكن الإدراك والمشاعر الوطنية ليست كافية لإسقاطه، أو الثورة عليه، لا بد من التفكير العلمي الهادئ والرزين لنسدد خطا الثورة والتغيير ونضعها في مسار تصاعدي.
إن الثورة المطلوبة اليوم هي وحدة المقاومين على كافة الجبهات، وفي جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، لا يمكن للثورة أن تنجح بالأمنيات ولا بالهتافات والمسيرات والشعارات، لا بد من نظرية ثورية علمية تقودها، هذه النظرية لا بد أن تمثل في جوهرها ديالكتيك تحول تاريخي موضوعي، ينتقل فيه المجتمع من نموذج اجتماعي إيديولوجي إلى نموذج آخر ينقضه.
لقد علمنا التاريخ أن النظام الاستعماري قادر على تجاوز أزماته، وتحويل هزائمه إلى فرص للتغلب على تناقضاته الناشئة وتغيير مظهره الخارجي ليعود بثوب جديد يمكنه من هزيمة خصومه، في عام 1918 تحالفت 14 دولة استعمارية مع المعارضة الداخلية (البيضاء) وشنوا حرباً ضد الاتحاد السوفييتي الناشئ بهدف إسقاط الثورة الاشتراكية، فشلوا في المحاولة الأولى، لكنهم استمروا في المحاولة حتى تحقق لهم النجاح بعد سبعين عاماً من المحاولات، في عام 1968 حوّل اليمين الفرنسي ثورة الطلاب اليساريين إلى انتصار ساحق للمرشح اليميني شارل ديغول، بعد أن كان مهدداً بخسارة منصبه، في عام 2008 كادت الرأسمالية تنهار على وقع الأزمة المالية، لكنها عادت بكل شراسة ووحشية لتقتل ملايين البشر في أقل من عقد ونصف.
وفي كل مرة كان الثوريون يلجؤون إلى خيار أبلوموف، يجلسون على أرائكهم، حالمين بالانتصار على الرأسمالية وسقوطها، وعودتهم إلى صدارة الأحداث، لكن ذلك لم يحدث، لقد جاءت الحرب على سورية لتسقط خيار أبلوموف، وليصنع الجيش العربي السوري وحلفاؤه معجزة هزيمة المشروع الاستعماري في المنطقة أولاً، وليفتح الصمود السوري الأبواب لدخول قوى إقليمية ودولية جديدة إلى ساحة الصراع العالمي، وليكبح جماح العنجهية الرأسمالية ويدفعها للتراجع، سواء بتوازن الرعب بين المقاومة في كل مكان من العالم، وقوى العدوان الرأسمالي، أو بالاضطرار إلى عقد اتفاقات صغيرة مثل اتفاق درعا، أو كبيرة مثل العودة إلى محادثات فيينا.
هذا الإنجاز العسكري والسياسي لم يواكبه حتى اليوم مشروع ثقافي اقتصادي يقوض البنى الثقافية الاقتصادية السائدة المرتبطة بالاستعمار، ويتيح المجال لثقافة واقتصاد المقاومة ليكونا المولود الجديد.
لا شك أن قول الأشياء أسهل بملايين المرات من فعلها، لكن لا بد من بداية ما تضع قوى المقاومة وجمهورها على أول طريق الصراع، إن المبادرة الأولى بيد المثقفين المدعوين لتجاوز تقليد المناسبات والذكريات، والمبادرة بالسير نحو المستقبل بالدراسات والأبحاث ذات الطابع العلمي والعملي، والمنسقة بين الساحات المختلفة لخلق إرث عربي ثقافي مقاوم جديد، بعيداً عن أحلام التسويات وأوهام القرارات الدولية، يقع العبء أيضاً على الاقتصاديين الوطنيين أن يمدوا جسور العمل الاقتصادي المشترك مع إخوانهم العرب، ويؤسسوا لمصالح اقتصادية مشتركة.
قد تكون البداية صغيرة، وقد يراها البعض غير مؤثرة في سير الأحداث الكبرى التي تجتاح منطقتنا، لكن لنتذكر دائماً أن خيار أبلوموف يعني الهزيمة المحتومة، وأن أي خطوة أخرى، مهما بدت صغيرة، هي خطوة أخرى على درب الانتصار.
كاتب من الأردن