الدون الهادئ
في روايته “الدون الهادئ” التي كتبها ما بين عامي 1924 و1940، يرصد ميخائيل شولوخوف التغيرات التي حدثت في الاتحاد السوفييتي ما قبل ثورة أكتوبر الاشتراكية وما بعدها.
تتحدث الرواية عن أسرة الفلاح القوزاقي ميخلوف الذي عاد إلى قريته بعد انتهاء الحرب مع تركيا (حرب القرم)، وأحضر معه أسيرة تركية كان قد تزوجها.
لم يحظ هذا الزواج بقبول سكان القرية فاختار ميخلوف قطعة أرض على ضفة نهر الدون، وبنى عليها كوخه وحظيرة أغنامه.
يأخذنا الكاتب من خلال حكاية ثلاثة أجيال من أسرة ميخلوف في رحلة عن التغيرات الكبرى التي حدثت في المجتمع، بما فيها الحرب الأهلية وانتصار الثورة الاشتراكية ووصول الجيش الأحمر إلى القفقاس.
وفي كل مرة يعود فيه أبناء ميخلوف أو أحفاده يرتسم في خلفية الأحداث منظر نهر الدون الذي يستمر في الجريان بهدوء، وكأن كل ما يحدث من تغيرات عظيمة لا يعنيه.
نكاد نلمح مكر التاريخ في كل الأعمال الأدبية الكبيرة، نجدها عند شكسبير في يوليوس قيصر، فبروتوس شارك في اغتيال يوليوس قيصر ليحمي روما، لكن النتيجة كانت دمار الإمبراطورية الرومانية وغرقها في الحروب.. وكذلك نلمحها في مسرحية أوديب الملك الذي يترك مدينة كورنث ويذهب إلى طيبة ليتجنب تحقيق نبوءة العرافة التي قالت إنه سيسفك دم أبيه ويتزوج أمه، لكنه في سعيه هذا يحقق النبوءة نفسها وينتهي أعمى يهيم في الأرض.
يرمز نهر الدون هنا إلى التاريخ الذي يستمر بالتقدم نحو الأمام، بغض النظر عن الأحداث الجسام التي تحدث على ضفافه.
لعل من الأدق أن نشبه نهر الدون بمكر التاريخ كما فعل هيغل، فالنهر يواصل جريانه شاهداً علينا فيما نحن نتحرك في اتجاهات لم نتوقعها يوماً، تماماً كما يأخذ التاريخ مجراه بغض النظر عن أفعالنا التي ربما كنا لا نريد نتائجها أو نسعى إلى نتائج مختلفة عمّا حصلنا عليه.
في عالم اليوم تحاول الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لعب دور مكر التاريخ فتطلق على نفسها اسم الأخ الأكبر الذي يتجاوز عن سيرورة الأحداث ويفرض عليها منطقه وسبله.
في كل مرة يهب فيها شعب في محاولة لنيل حريته وسيادته، وإنهاء تبعيته للمركز الرأسمالي، تتدخل الرأسمالية بشكل مباشر أو غير مباشر لتلوي عنق التاريخ والأحداث لمصلحتها.
رأينا ذلك في سورية وإيران حيث تقوم الولايات المتحدة وحلف “ناتو” بفرض الاحتلال العسكري المباشر على أجزاء من سورية، والحصار الاقتصادي المجرم على سورية وإيران، في الوقت نفسه تتلاعب منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية المرتبطة بالأجندة الاستعمارية بمصائر الشعوب والدول من خلال التقارير الملفقة، كما فعلت لجان التفتيش الدولية في العراق، وتفعل منظمة الحد من انتشار الأسلحة الكيماوية في سورية، أو جيش منظمات المجتمع المدني التي تفتت المجتمعات من الداخل وتحضر المسرح لعمليات “ناتو” والجيش الأميركي.
في ظل هزيمة المشروع الأميركي في منطقتنا، وتصاعد فعالية الدوران الروسي والصيني على ساحة الأحداث العالمية، تحاول الرأسمالية الضرب في جميع الاتجاهات، من كوبا إلى فنزويلا إلى جزر سليمان التي تقع على حدود بحر الصين الجنوبي وتكاد تكون بلا دور ولا أهمية، حتى قررت الولايات المتحدة نقل ساحة حربها إلى المحيط الهادئ.
في أميركا الوسطى والجنوبية تتوالى خسائر الولايات المتحدة، فبعد فنزويلا وبوليفيا، جاء الدور على نيكاراغوا التي أعيد فيها انتخاب دانييل أورتيغا رئيسا للبلاد بأغلبية ساحقة.
في الوقت نفسه ما زال النظام الشيوعي في كوبا صامدا، رغم الحصار الاقتصادي الذي أصبح أكثر حدّة بعد وصول الرئيس ترامب إلى سدة البيت الأبيض. تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها على دعم الاضطرابات الداخلية، وتحريض المعارضة للخروج إلى الشارع لزيادة الإنهاك الاقتصادي الذي يسببه الحصار ووباء كورونا.
على الجانب الآخر من العالم تندلع الاحتجاجات في جزر سليمان.. معظم المتظاهرين جاؤوا من جزيرة مالاتيا التي رفضت حكومتها المحلية قرار رئيس وزراء الحكومة المركزية إلغاء الاعتراف بتايوان كدولة مستقلة.
نفس الاحتجاجات انطلقت في العام 2019 عندما قررت الحكومة المركزية إقامة علاقات دبلوماسية مع الصين، ما دفع المعارضة للخروج إلى الشارع متهمة رئيس الوزراء بأنه عميل للصين، في الوقت الذي أرسلت فيه أستراليا قوات سلام إلى الجزر لحماية المدنيين، لا يمكن رؤية الاحتجاجات بعيداً عن حلف أوكوس الذي أعلن عنه الرئيس الأميركي جو بايدن بمشاركة بريطانيا وأستراليا، فالمحتجون هاجموا الحي الصيني في العاصمة هونيارا وقاموا بحرق المنازل والمحلات التجارية، كما حاولوا إحراق مبنى البرلمان ومقر رئيس الوزراء.
تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها على تصعيد التوتر مع الصين وروسيا على جميع الجبهات، وآخر محاولة للتصعيد كانت الدعوة لقمة “الدول الديمقراطية” الافتراضية، والتي دعيت 110 دول للمشاركة فيها، واستثنيت الصين وروسيا، إضافة إلى دول إقليمية مثل تركيا والسعودية وبالتأكيد إيران.
لم توجه الدعوة إلى أي دولة عربية باستثناء العراق، وكذلك دُعيت تايوان و”إسرائيل”، في محاولة لخصخصة الديمقراطية، وجعلها منتجاً حصرياً للرأسمالية، يغيب حلفاء الولايات المتحدة الذين لم تتدخل الولايات المتحدة في صياغة “ديمقرطياتهم”. عبر هذه الديمقراطية تسعى الولايات المتحدة لرسم خطوط تقسيم جديدة للعالم، محددة مناطق نفوذها وجبهات المواجهة مع خصميها الرئيسيين؛ الصين وروسيا.
تغيب منطقتنا تماماً عن الفعل بعد أن اختارت معظم الدول العربية ركوب القارب الإسرائيلي نحو “شاطئ النجاة الأميركي”.
بعد اتفاق الكهرباء مقابل الماء الذي عقدته الأردن مع “إسرائيل”، حملت لنا الأخبار أنباء الاتفاق الأمني العسكري بين “إسرائيل” والمغرب، وأخذت الاختراقات الصهيونية تتوالى يوماً بعد يوم، والعالم العربي غارق في أزماته الاقتصادية والسياسية.
لقد آن الأوان للانتقال من مساحة رد الفعل إلى مساحة الفعل.. ولعل الخطوة الأولى تكون بالدعوة إلى قمة للدول التي اختارت مقاومة مكر التاريخ بصيغته الرأسمالية، ولتكن قمة للشعوب والحكومات تفتح الباب أمام توحيد الجبهات في مواجهة الشيطان الأكبر.
كاتب من الأردن