بين باب الساهرة وباب السلسلة.. حكاية وطن

خلال بضعة أيام سجلت مدينة القدس عمليتين فدائيتين، الأولى عند باب الساهرة الواقع في الجدار الشمالي للبلدة القديمة، والثانية عند باب السلسلة وهو أحد أبواب الحرم القدسي.

بالنسبة للناظرين عن بعد تشكّل هاتين العمليتين تطوراً نوعياً في المواجهة بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، لكن بالنسبة لأولئك القابضين على جمر الوطن في المدينة القديمة فما حدث لا يتجاوز كونه حادثاً يومياً، بل يمكن أن يحدث أكثر من مرة في اليوم الواحد.

العملية الأولى نفذها الشهيد عمر أبو عصب، شاب في السادسة عشرة من عمره يسكن قرية العيسوية. ينسب البعض اسم القرية إلى النبي عيسى عليه السلام الذي يُقال إنه جلس مع أصحابه في ظل إحدى أشجارها.

اشتهرت العيساوية بأنها واحدة من القرى الفلسطينية التي صادر الاحتلال أكثر من 70% من أراضيها لصالح الاستيطان والطرق الالتفافية. كما اشتهرت بعد الإضراب عن الطعام الذي قام به ابنها سامر العيساوي الذي كان معتقلاً لدى سلطات الاحتلال، واستمر إضرابه 270 يوماً، كانت العيساوية خلالها تشهد مواجهات مع قوات الاحتلال بشكل يومي تقريباً. ومما لاشك فيه أن عمر أبو عصب، الطفل وقتها والشاب لاحقاً، كان أحد أولئك الأطفال الذين تصدوا للاحتلال في تلك المواجهات.

العملية الثانية نفذها الشهيد فادي أبو شخيدم، وهو مدرس في الثانية والأربعين من عمره، يدرّس التربية الإسلامية واللغة العربية، وهو من سكان شعفاط، وهي قرية تقع شمال شرق القدس تعرضت لمصادرة الكثير من أراضيها، ثم جاء جدار الفصل العنصري ليفصلها عن مخيم شعفاط وقرية عناتا.

لم يكن عمر ابن تنظيم، ولم تكن عمليته مخططة. أما فادي فكان ابن تنظيم حماس، وحسب تقارير أمن العدو كانت عمليته مخططة مسبقاً إذ أعد ملابس حاخام يهودي ليرتديها أثناء تنفيذ العملية. جاءت العمليتان في تكامل بين العمل المقاوم المنظم وغير المنظم، لكنه عمل مستمر. ففي شباط 2019 صادرت قوات الاحتلال منزل حاتم أبو عصب داخل مدينة القدس بادعاء أنه كان مؤجراً لسيدة يهودية قبل سنة 1967. ثم قام أيوب أبو عصب بمحاولة إحراق منزل والده المصادر لكن قوات الاحتلال قامت باعتقاله والحكم عليه بالسجن لمدة عشرة شهور.

قبل ذلك بسنوات وبالتحديد في العام 2016 قام الشاب أيمن الكرد بعملية طعن في باب الساهرة أصيب على أثرها وحكم عليه بالسجن لمدة 35 عاماً.

العمليات تتكرر كل يوم، ولا شيء جديداً إلا التأكيد على أن الشعب الفلسطيني كان وما زال يرى في المقاومة الوسيلة الأكثر نجاعة في تحقيق أهدافه الوطنية.

هذا الخيار تعزز بعد تجربة طويلة مع ما يسمى بمفاوضات السلام، التي لم تثمر إلا زيادة في معاناة المواطنين ومصادرة أراضيهم.

هذا التصميم الفلسطيني على المقاومة يقابله إصرار عربي على التطبيع. مشهدان يتجلى فيهما التناقض بأوضح صوره. لعل البعض يتساءل لماذا تندفع بعض الدول العربية للتطبيع مع العدو، وفي نفس الوقت تشيد وسائل إعلامها بالفدائيين الذين ينفذون العمليات ضد العدو الصهيوني، وتصورهم على أنهم أبطال، أليس التناقض هنا أكثر وضوحاً؟

الانطباع الذي تحاول دول التطبيع تركه لدى المتلقين أنها مؤيدة لما يقوم به الفدائيون لتحرير فلسطين، لكن ذلك غير ممكن والدليل ما نراه يومياً من وحشية العدو وإجرامه، لذلك لا بد من مهادنة هذا العدو لحقن الدماء الفلسطينية. أليست هذه الحجة الأكثر شيوعاً على لسان كل من ذهبوا إلى اتفاقيات مع العدو؟ وبعد التوقيع تبدأ الصفقات ويبقى الدم الفلسطيني خارج معادلات السلام.

هذا الموقف ليس محصوراً بالدول الساعية إلى التطبيع، ولكنه يشمل قوى سياسية وتيارات ثقافية تحسب نفسها على التيار المقاوم. فما أن يراق دم مقاوم حتى ينبري هؤلاء ليعلنوا انتصار الدم على الاحتلال وانتصار الـ«كارلو» على ترسانة الأسلحة الصهيونية. بالتأكيد لا بد من تمجيد المقاومين وتضحياتهم، ومن الضروري تحويلهم إلى أيقونات تعمل على إبقاء جذوة النضال مشتعلة في نفوس الجماهير، لكن الانتصارات الوهمية لا تقل خطورة عن الهزائم، بل لعلها تفوقها أثراً سلبياً بما تحمله من خيبات أمل وإحباط.

لا يمكن للكارلو أن ينتصر على أحدث الأسلحة، للنصر شكل وطعم يعرفهما كل إنسان، أن تدفع عدوك للانسحاب ولو من شبر من أرضك بالقوة، أو أن تمنع مخططاً يستهدف قضيتك من التحقق. الشعب الفلسطيني يمارس المقاومة كل يوم لكن العدو يعمق استيطانه وامتهانه لحقوق الفلسطينيين كل يوم أيضاً. والشعب الفلسطيني يصرخ كل يوم رافضاً التطبيع ومطالباً بدعم نضاله، لكن مسيرة التطبيع تتقدم بسرعة تفوق قدرة البعض على المتابعة، حتى لا يكاد يمر يوم من دون خبر عن اتفاقية جديدة بين دولة عربية والكيان المحتل. فكيف نتحدث عن انتصارات والدول العربية تتساقط الواحدة تلو الأخرى في فخ التعاون مع العدو؟

الاحتفال المبالغ بالنصر يقول أيضاً، هاهم الفلسطينيون ينتصرون وليس علينا كقوى سياسية ومثقفين سوى الاحتفال بهذه الانتصارات وتمجيدها لكي تتعزز، ويتمكن الشعب الفلسطيني -وحيداً– من تحقيق النصر النهائي.

هذا الأمر لن يحدث يا سادة، وما تفعلونه ليس أكثر من ذر للرماد في العيون.

لتنتصر لا بد أولاً أن تنحاز إلى محور المقاومة بكليّتك، ولهذا المحور عناوين معروفة وعاصمة شامخة اسمها دمشق. ثم تنتقل من مرحلة القول إلى مرحلة الفعل فتستل بندقيتك وقلمك وتنخرط في المواجهة على الأرض، تبذل التضحيات وتتحمل الحرمان من مقومات الحياة الأساسية، كما يفعل سكان دمشق وغزة والقدس وبيروت وصنعاء. وأن تواجه أنظمة التطبيع في بلادك وتفشل مخططات المطبعين وتفضح أسمائهم، لا أن تختبئ خوفاً من قانون الجرائم الالكترونية، فيما آخرين يخرجون إلى الموت بصدورهم العارية.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار