التضليل.. دون معلومات مضللة
في حدث نال اهتمام الأوساط الإعلامية في الولايات المتحدة أعلن عن تأسيس شركة «المعلومات الصحيحة» وهي عبارة عن شراكة بين المليارديرين ريك هوفمان من شركة Linkedin، وجورج سوروس الشهير بدعم “الثورات” الليبرالية من خلال مؤسسة «المجتمع المفتوح».
كما أُعلن أن إدارة الشركة الجديدة ستكون للخبيرة الإستراتيجية تارا ماكغوان، وهي إحدى خبراء الحزب الديمقراطي الذين قادوا الحملة ضد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
هدف الشركة المعلن؛ تمويل وإقامة الشركات التي تكافح أزمة المعلومات المُضللة التي تعاني منها وسائل الإعلام.
الخطوة الأولى للشركة الجديدة كانت الاستحواذ على Courier Newsroom، وهي مجموعة إعلامية مؤيدة للديمقراطيين، تعتبر النظير الديمقراطي لشبكة فوكس ذات التوجهات اليمينية والمرتبطة بالحزب الجمهوري.
يتم تداول هذا الخبر في حملة يقوم بها مليارديرات العالم على ما يسمى «المعلومات المضللة» وهي حملة تستخدم لغة صادمة من قبيل وصف هؤلاء الأثرياء بالقوى التقدمية، وأنصار الشعوب الحقيقيين، وحملة لواء المساواة والحرية. تضم القائمة أسماء مثل كريغ نيومارك؛ مؤسس شبكة “قائمة كريغ”، وهي شبكة إعلانية تنتشر في 700 مدينة عالمية معظمها في الدول الأوروبية الغربية والولايات المتحدة وكندا. رغم أن هذه الشبكة لا تقدم إفصاحات مالية عن دخلها أو عن مالكيها، إلا أن المحللين الماليين يعتبرونها منجماً من الذهب خاصة إذا تخلى مالكوها عن توجهاتهم الاشتراكية أو ما أسماه أحد المحللين «بيانها الشيوعي».
على القائمة نفسها يبرز اسم ستيف بالمر الرئيس التنفيذي السابق لشركة مايكروسوفت، والذي أنشأ شبكة «الحقائق الأميركية USA Facts» وهي شبكة تعمل على تحليل بيانات الحكومة الأميركية في جميع المجالات وتسهيل حصول المواطنين على هذه البيانات.
يبقى جورج سوروس النجم الأكثر سطوعاً في نادي المليارديرات من خلال مؤسسة «المجتمع المفتوح» التي أنفقت منذ إنشائها حوالي 34 مليار دولار في أكثر من 100 دولة في سبيل «دعم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان». استطاع هذا الملياردير اليهودي الأميركي ذو الأصل الهنغاري غزو معظم دول العالم غير الغربي بأفكار مؤسسته، وإطلاق “الثورات” ضد أنظمة الحكم ودفع الدول نحو تبني خيارات الليبرالية الاقتصادية والسياسية.
قبل أن يتحول جورج سورس إلى دعم الديمقراطية، اشتهر بتلاعبه بأسواق المال والعملات، فكان وراء «الأربعاء الأسود» البريطاني في 16 أيلول 1992، عندما انخفض سعر صرف الجنيه الإسترليني إلى أدنى سعر له تاريخياً، وحقق ربحاً مقداره مليار دولار في يوم واحد. وعاد في عام 1997 لينفذ نفس الخطة في أسواق جنوب شرق آسيا لتكون النتيجة أزمة اقتصادية عُرفت بانهيار النمور الأسيوية (ماليزيا، إندونيسيا، سنغافورة، تايوان الفلبين) ويحصد سوروس عشرات المليارات.
بعد انتهاء مهمته في عام 1998 أعلن “فاعل الخير”، وهو اللقب المفضل لدى سورس، عن عودته إلى مؤسسة المجتمع المفتوح التي كان قد أسسها عام 1979 لدعم “الثورة” في بلده الأصلي هنغاريا. أول فتوحات المؤسسة كانت في يوغسلافيا عام 2000 عندما ساهم ودعم تأسيس منظمة «أتبور» المناهضة لحكم الرئيس سلوبودان ميلوسيفتش، ولمع اسم المؤسسة مرة أخرى لدورها في “ثورة الورد” في جورجيا، و”ثورة التوليب” في قرعيزستان، و”الثورة البرتقالية” في أوكرانيا. وهكذا تحول سوروس ومنظمته إلى متعهدي ثورات ديمقراطية ليبرالية، وانتقل من تدمير الدول اقتصاديا إلى تدمير بناها السياسية، بل وبناها التحتية في حال قاومت الفتوحات الديمقراطية الليبرالية. بعد أن أتم التسعين من عمره لم يشأ سوروس أن يغادر هذا العالم دون أن يعيث فيه المزيد من الخراب، فكانت شركة “المعلومات الصحيحة”.
من ناحية توجه هذه الشركات نشاطها إلى الجمهور في الدول الغربية عامة والولايات المتحدة بشكل خاص، والهدف هو منع تكرار ظاهرة الرئيس دونالد ترامب التي كادت تطيح بالكثير من مؤسسات المجتمع المدني لصالح استعادة دور الدولة الأميركية في صناعة القرارات الاقتصادية والسياسية داخل الولايات المتحدة وخارجها.
من ناحية أخرى فإن هذه الشركات تقدم صورة مثالية عن الديمقراطية الغربية من أنها قائمة على الشفافية والمعلومات الصحيحة، على عكس الخطاب السياسي والإعلامي في الدول المستهدفة والقائم على “المعلومات المُضللة” وبالتالي فإن استبداله بالخطاب الديمقراطي الليبرالي يعتبر خطوة باتجاه الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. في هذا السياق ولدت منظمات مجهولة القيادة والأهداف، ترفع شعارات مبهمة من قبيل “فلّسنا”، و “كلن يعني كلن”، و”أنا الخط الأحمر”، والهدف الواضح لهذه المنظمات تحميل البنى السياسية الوطنية القائمة مسؤولية الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعيشها هذه الدول، وتبرئة الغرب ومشاريعه الاستعمارية من المسؤولية عن هذه الأزمات.
المشكلة أن الخطاب السياسي الوطني في الدول المستهدفة يعاني من الرتابة وعدم القدرة على مواكبة الأحداث لعوامل ذاتية، وأخرى موضوعية تتعلق بحدة الهجمة وتوالي الأزمات المتلاحقة. لكن تصاعد التضليل الاستعماري يدفع موضوع تجديد البنى السياسية الوطنية إلى موقع متقدم في سلم الأولويات الوطنية. هذا التجديد يشمل إعادة تشكيل البنى السياسية الوطنية بما يضمن مشاركة أوسع قطاعات من الجماهير في العملية السياسية، وتحفيز التعددية السياسية على قاعدة وطنية تقدمية وتحفيز الديمقراطية الشعبية دون الانزلاق نحو التعددية أو الديمقراطية الليبرالية، وتوسيع هامش الحريات الإعلامية ليتمكن الإعلام من أن يكون سنداً حقيقياً للدولة في كشف مواطن الخلل، وليس مجرد أداة لإيصال الرسائل السياسية. بغير ذلك سنبقى هدفاً سهلاً، وسوف يلبس تضليلهم لبوس «المعلومات الصحيحة» ويغزونا ونحن في غفلة من أمرنا.
كاتب من الأردن