بيان غير عسكري..
تنخلع قلوبنا فرحاً أو حزناً مع كل بيان عسكري يصدر عن قيادة الجيش العربي السوري.
قد يحمل البيان بشرى نصر وتطهير لأرض سورية من دنس المستعمر وأدواته، فنبكي فرحاً، أو يحمل خبر ارتقاء ثلة من بواسل الجيش إلى فردوس التضحية في سبيل الوطن فنبكي حزنا وألماً.
بين دمعة ودمعة تنتصب سورية مارداً جباراً، يرسم لوحة وطن أتعبه فقد الأحبة، رغم أنهم عادوا إلى رحم أمهم الأولى؛ الأرض.
دموع صباح 20 تشرين الأول لا تختلف عن كل الدموع التي سبقتها ونحن نودع مواكب شهدائنا. الغصّة في القلب هي الغصّة نفسها، ومرارة الحلق هي المرارة نفسها لكن.. آه «يا لكن» لو نتعود على الموت، لو نؤمن حقاً أن العالم بعد سقوط الشهداء يصبح أجمل، كيف يصبح العالم أجمل برحيلهم، وهم كانوا أجمل ما فيه؟
كانوا البندقية الساهرة ونحن نيام، الجسد المرتعش من برد القفر ونحن ننعم بدفء الأغطية. كانوا ينيرون سماءنا بنور قلوبهم، ونحن نشكو من انقطاع الكهرباء. اليوم رحل عدد منهم بيد الغدر، فهل من ظلام أشد حلكة وقسوة؟.. لا نضن على الوطن بدم أي منا، لكن الغدر يؤلم.. بكاء الأمهات والأبناء يوجع، وانكسار الآباء يؤلم.
عشر سنوات ونحن نشيع شهداءنا بالزغاريد والقلوب تبكي، اليوم نبكي علانية، فعلى مثلهم يجوز البكاء.
الموت لم يكن يوماً هدفنا، بل التضحية في سبيل الوطن، وقد ضحت سورية بخيرة شبابها على محراب الوطن وقضايا الأمة، وتجاوز شهداؤها المستحيلات فيما صنعوه.
من منا حلم برؤية العدو الأميركي يتراجع ويفشل في مخطط له في منطقتنا التي تعودت على الاستسلام لكل ما هو أميركي؟.. من منا تخيل بعد أكثر من عشر سنوات من الحرب أن نشهد الجيش التركي، أحد أكبر جيوش “ناتو” في أوروبا، يتراجع في شمال سورية تحت ضربات جيشنا وصمود شعبنا؟.. من توقع أن تهرع الدول العربية التي تآمرت على سورية إلى أبواب دمشق ساعية للتكفير عن خطاياها؟.. ألم ندفع الثمن كاملاً، فما بالك يا موت لا ترتوي من دمائنا؟
نبكي ألماً، ونبكي غضباً. نغضب لأننا من مدرسة وطنية لا يحركها الثأر فتصرخ وتقول لجيشها اضربهم في كل مكان وليمت من يموت منهم، مدرسة لا تقدر أن تقول للوطن لا تسامح ولا تصالح من عاد منهم إلى حضنك.
نبكي قهراً ونحن نرى أبناء من احتضنتهم سورية، علمتهم، وأرسلت أبناءها ليبنوا بلادهم، فعادوا إليها قتلة ومتآمرين، ونحن لا نملك إلا أن نغني من قلوبنا “بلاد العرب أوطاني”.
لا أكتب اليوم كأردني، أو عربي، ولكن كسوري الوجع والحزن. دموعي دمشقية، وقلبي يطوف على الجبهات، يحضن كل من أغمض عينيه برهة حزناً على صديق أو رفيق سلاح، ثم فتحهما من جديد، عيون صقر ترقب العدو الغادر.
أبكي من حمل ابتسامته يوم إجازته أملاً بلقاء أم أو زوجة أو حبيبة، من حلم بيد أب تربت على كتفه المتعب، وصوت يقول بكل فخر “رفعتوا روسنا”. أبكي من..
إذا القوم مدّوا بأيديهم إلى المجد مدّ إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم من المجد ثم مضى مُصْعِدا
اسمحوا لنا يا حماة الديار، أن يكون بياننا غير العسكري اليوم مثقلاً بالدموع، وأن ننحني أمام طهر دمائكم ونقول وداعا “يا أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر”.