قارئة الفنجان…
قبل أيام تسرب خبر من الإعلام الصهيوني حول زيارة سرية قام بها رئيس وزراء العدو نفتالي بينيت إلى عمّان التقى خلالها الملك عبد الله الثاني.
لم يترافق هذا التسريب بأي معلومات حول ما دار في اللقاء، أحد الإعلاميين علق على ذلك بالقول بأن محتوى اللقاء ليس مهماً، فالمطلوب كان عقد اللقاء ولو بهدف احتساء القهوة، كان بينيت بحاجة لهذه الزيارة ليتجاوز الجمود الذي ساد العلاقات الأردنية- الإسرائيلية منذ تشكيل حكومة نتنياهو الأخيرة، وليعطي حكومته الناشئة دفعة سياسية تساعدها على تجاوز الظروف التي أدت إلى فقدان الزخم في عملية التطبيع الإسرائيلية- الخليجية.
تعتبر خطوة بينيت نوعاً من التماشي مع الرؤية الأميركية الجديدة للمنطقة. فالتحالفات الجديدة غير مستقرة، والمحاور التي سعت الولايات المتحدة لتشكيلها منذ بداية “الربيع العربي” عانت من تذبذب مستمر، إذ سرعان ما يتحول الحلفاء إلى خصوم، والعكس صحيح. وفي ظل محاولة إدارة بايدن جلب “الاستقرار “إلى المنطقة كان لا بد من العودة إلى الحلفاء التاريخيين، الأكثر استقرارا وقدرة على تقديم الخدمات والتسهيلات الضرورية في المرحلة القادمة.
يحتل كل من الأردن والمغرب مكان الصدارة في هذا المجال، ناهيك عن علاقاتهم التاريخية مع “إسرائيل” منذ تأسيسها.
بالنسبة للأردن، الذي يعاني سلسلة من الأزمات السياسية والاقتصادية المتلاحقة، فإن العودة إلى مكانته المميزة في القارب الأميركي تعتبر إحدى أهم الأولويات لتجاوز هذه الأزمات. ويدرك الأردن منذ الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد عام 1989 أن العامل الإسرائيلي يؤخذ بعين الاعتبار لدى الإدارة الأميركية.
هذا الموقف الإسرائيلي أصبح يمتلك وعياً أكثر نضجاً فيما يتعلق بدور الأردن وموقعه في المواجهة مع محور المقاومة، خاصة في ظل التوجه الأميركي للعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران من دون شروط جديدة تتعلق بالنشاط الصاروخي الإيراني.
الأردن الذي فقد الكثير من أهميته الجغرافية بعد العام 2003 ووصول القوات الأميركية بشكل مباشر لحماية مصادر النفط و”إسرائيل”، ووضع قواعد عسكرية على الحدود مع إيران عاد ليفقد دوره السياسي كوسيط بين العرب و”إسرائيل”، بعد انطلاق موجة “صفقة القرن” وما تلاها من تطبيع عربي مع الكيان الصهيوني. لكن الظروف خدمته في مناسبتين؛ الأولى فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأميركية، والثانية نتائج معركة “سيف القدس” التي أثبتت بشكل شبه نهائي أن الحل الاقتصادي (الإبراهيمي) للقضية الفلسطينية ليس سوى أوهام، وأن الحل الوحيد لا يمكن إلا أن يكون سياسياً، وأن أي حل سياسي لا بد وأن يمر عبر الأردن.
اتفاقية التعاون العسكري مع الولايات المتحدة سمحت للمملكة الصغيرة باستعادة جزء كبير من أهميتها الجيوسياسية داخل المعسكر الأميركي. لذلك لم تتوانَ عن القبول بالتحول لممر للقوات والمعدات الأميركية، التي ستنطلق منها لتنفيذ مهامها في المنطقة كما صرح رئيس الوزراء الأردني الأسبق طاهر المصري.
الخصم الأساسي الذي خسر في مواجهة الأردن هو المملكة العربية السعودية التي مارست أقسى الضغوط على الأردن، خاصة في المجال الاقتصادي، لانتزاع الولاية على المقدسات الموجودة في فلسطين من يد الهاشميين.
بالنسبة للسعودية شكلت الولاية الدينية المدخل الوحيد الممكن لاشتراكها في عملية السلام. لكن التعنت الأردني المدعوم من السلطة الفلسطينية أحبط الآمال السعودية، وهو ما دفعها لدعم المؤامرة على عرش الملك عبد الله الثاني أو ما عرف بقضية الفتنة.
السعودية نفسها تعاني بحدة، فبعد أن راهنت بكل ما تملك على عودة ترامب، خسرت الرهان بوصول جو بايدن الذي يرفض أن يمد لها يد الإنقاذ، سواء من المستنقع اليمني أو في مواجهة إيران في الخليج. من الواضح أن إيران كسبت الجولة في الخليج، وأصبحت صاحبة اليد العليا بعد أن أثبتت جديتها في التصدي لأي محاولة اعتداء على مياهها الإقليمية أو على سفنها في المياه الدولية. وتخلي الشركاء الخليجيين عن السعودية في اليمن. ويبدو أن الجيش اليمني وحلفاءه قادرون على إلحاق هزيمة مذلة بالجيش السعودي لولا مجموعة من الاعتبارات السياسية الإقليمية والدولية. لذلك استدارت السعودية نحو الأردن ومصر وحلفائها الخليجيين في منظمة أوبك في محاولة منها لانتزاع الدعم اللازم.
الضغط الرئيسي على مصر اليوم يأتي من سد النهضة. فبعد أن تمكن الجيش المصري من تحييد دور الإرهاب في سيناء والحدود الليبية، لجأ خصوم مصر إلى سلاح المياه والطاقة. قضية مياه النيل قضية قديمة وهي موضوع لمحادثات مستمرة بين الدول الثلاث (إثيوبيا، مصر، السودان). الجديد هو تعنت إثيوبيا وتراجعها عن كل ما تم الاتفاق عليه سابقاً، ما جعل السودان، المنحازة تاريخياً للموقف الإثيوبي، تنتقل إلى الخندق المصري. هذا التعنت الإثيوبي ليس عفوياً، فهو مدفوع من جهات تريد وضع المزيد من الضغوط على مصر، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والدول الأوروبية و”إسرائيل”.
بالنسبة لـ”إسرائيل” تبقى مصر التهديد الأخطر والأهم لوجودها، في الوقت الذي يبدي فيه الأوروبيون قلقاً واضحاً من تنامي الاهتمام المصري بالعمق الإفريقي.
لقد أُسقط بيد الولايات المتحدة بعد فشل مشروعها الإخواني في مصر، لذلك فهي لا تمانع في وضع المزيد من الضغوط على مصر للحد من الطموحات التي تبديها الدولة المصرية من خلال التركيز على مشاريع البنية التحتية، خاصة في مجالي الطاقة والنقل. يضاف لما سبق عودة مصر للحديث عن مشاريع داخل إفريقيا كاستعادة فكرة الزعيم جمال عبد الناصر لجر مياه نهر الكونغو لرفد النيل الأزرق، وبالتالي تجاوز أزمة سد النهضة من خلال ضخ 92 مليار متر مكعب من المياه في مجرى النيل. بالتأكيد يحتاج مثل هذا المشروع إلى إمكانيات اقتصادية هائلة لكن من المتوقع، في حال تمكنت مصر من تنفيذه، أن يسمح بزيادة مساحة الأراضي الزراعية في مصر بما يقارب 80 مليون فدان.
لقد فتح صمود حلف المقاومة ثغرة في جبهة العدو. وكل ما دار ويدور على الأرض أصبح واضحاً إلى درجة لا يحتاج معها إلى المبالغة في التحليل أو التنبؤ. المعركة مستمرة ولن تنتهي قريباً، وكلما اقتربنا من النصر، ازدادت شراسة العدو ومحاولاته لإفشالنا.
علينا أن ندرك أن جبهة تحالف العدوان ضعيفة ومنهارة، ليس عسكرياً فقط، بل سياسياً ووطنياً.
كل الذين تآمروا على أوطانهم وقضاياهم ضعفاء وخائفون لأنهم يدركون بأنهم خونة، وأنهم، ولو بقوا على عروشهم، فإن مصيرهم ليس بأيديهم بل بأيدي داعميهم.
كاتب من الأردن