ماكدونالدز على الأبواب

أكثر ما تتقنه الرأسمالية هو إعادة إنتاج بضائعها وتسويقها بصيغة جديدة قد تتنافى كلياً مع أدوات التسويق التي استعملتها في الماضي.

في معظم دول العالم يعتبر حضور علامة مكدونالدز للوجبات السريعة دليلاً على التحول الاقتصادي باتجاه اقتصاد السوق، لذلك وضعت الدوائر الأميركية المعنية بالسياحة الخارجية معياراً للدول التي تعتبر الوجهة المفضلة للسياح الأميركيين يرتبط بسعر وجبة ماكدونالدز “Big Mac index”.

من الطبيعي الاستنتاج أن الدول التي تختار مقاطعة المنتجات الأميركية وعدم فتح أسواقها لشروط الاقتصاد الحر لن تجد اسمها على هذه القائمة.

هذه القائمة هي الوجه اللطيف لقوائم أخرى مثل قائمة “الدول الراعية للإرهاب”و”قائمة الدول الأكثر خطورة على الأجانب”، و”قائمة الدول التي تنتهك حقوق الإنسان أو الأطفال”.

لعل أكثر المنتجات الرأسمالية تسويقاً في زمننا الحاضر هو ما يسمى الرأسمالية الإنسانية، وهي خليط من منتجات سابقة كالليبرالية والديمقراطية الاجتماعية واقتصاد السوق الاجتماعي والرأسمالية الاشتراكية وغيرها.

ويعود نحت هذا المصطلح إلى أواخر تسعينيات القرن الماضي على يد الاقتصادي الأميركي ويليس هارمان، تتولى بعض المنظمات تسويق هذا النمط من الرأسمالية وأشهرها منظمة “فقط ما يكفي من الربح” (Just Enough Profit) والتي تعرف اختصارا باسم “JEP”.

تستعير هذه المنظمة شعاراً ثورياً صادماً لصحيفتها “مجلة المقاومة.. عش حراً أو لتمت” وتحدد أهدافها بمساعدة الشركات على الاستمرار بتحقيق الأرباح ولكن ليس على حساب الإنسان، وذلك من خلال:

1- تمتلك الرأسمالية الإنسانية الفرصة لخلق مجتمعات جديدة تستبدل “الطمع” بـ”الرعاية” بحيث نفكر أكثر بالآثار التي تتركها أفعالنا على الآخرين.

2- علينا استخدام التقنية بحذر لنتأكد من عدم استبدال الإنسان بالآلات.

ذكرتني هذه الشعارات بمغنٍ كان يحسب على الصف الوطني، واشتهر بأغانيه التي تتغنى بالفقراء وأبناء الطبقة العاملة، وتحول إلى مغن للطبقة المخملية يتجاوز ثمن الدخول إلى حفلته 200 دولار أميركي، ليغني في تلك الحفلات عن الفقراء الذين تقل دخولهم عن دولار واحد في اليوم!

على فراش الموت أدلى الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني ماكس هوركهايمر بتصريح لمجلة دير شبيغل قال فيه: “نحن في المجتمع الغربي المتطور نشكل جزيرة الحرية في هذا العالم، وهذا ما يجب حمايته تماما من البربرية”. من قتلوا الملايين من خلال حروبهم، وعادوا ليقتلوا ملايين أخرى بنهب ثروات الشعوب ومقدراتها، هؤلاء يتهمون الضحايا بالبربرية، ويراهم عالم اجتماع ينتمي إلى مدرسة فرانكفورت، ذات التوجه اليساري، جزيرة للحرية. لعل تصريح هوركهايمر هذا يشرح لنا كيف وجد معظم اليسار العربي ضالته الثورية في تنظيمات متطرفة مثل “جبهة النصرة وداعش”.

في كل مرة تنهض فيها الشعوب محاولة امتلاك قدرها وتحديد مصيرها تقابلها الرأسمالية بتقليعة جديدة تحاول سحب البساط من تحت أقدام الشعوب. خلال حقبة الرئيس بيل كلينتون جاءت التقليعة باسم “الحوكمة الرشيدة”، وهي ببساطة مجموعة من المعايير الرأسمالية التي تفرض على المجتمعات والدول وتطول جميع تفاصيلها، بدءاً من الأفراد وانتهاء بالحكام.

ملخص هذه المعايير يمكن وضعه في جملة واحدة “الديمقراطية الليبرالية منتج حصري لا يمكن أن يخدم أي مجتمع غير المجتمع الرأسمالي”. إذا أردنا وضع ذلك بشكل مباشر يمكننا القول “لتكون ديمقراطياً عليك أن تكون رأسمالياً”.

لكن ماذا إذا كنت لا تريد أن تكون رأسمالياً ولا ديمقراطياً؟ مثل هذا الخيار يعرضك للحصار والعقوبات، كما هو حال إيران وكوبا وفنزويلا والصين، وقد يعرضك للاحتلال كما حدث في العراق، أو “ثورة” تقودها تنظيمات همجية بغطاء غربي ورجعي كما حدث في سورية وليبيا.

يقول ميلتون فريدمان في كتابه “الرأسمالية والحرية”: “يلعب النظام الاقتصادي دوراً مزدوجاً في المجتمعات الحرة، فمن ناحية تعتبر الحريات الاقتصادية بحد ذاتها مكوناً من مكونات الحرية.. ومن الناحية الأخرى فإن الحرية الاقتصادية أداة لا يمكن الاستغناء عنها لتحقيق الحرية السياسية”

بعبارة أوضح فإن العلاقة بين حرية الأفراد وحرية الأسواق لا تنفصم، وأن الشعوب أمام خيارين: أن تكون رأسمالياً أو تابعاً للرأسمالية، أو أن تكون العدو.

إنسانية الرأسمالية إذاً محصورة بالرأسمالية وأتباعها، أما أولئك الذين يرفضون الالتحاق بالركب الرأسمالي فتُظهر لهم الرأسمالية الوجه الذي قصف هيروشيما وألقى قنابل النابالم على فيتنام، والقنابل الفراغية على ملجأ العامرية وقانا، وديمقراطية قطع الرؤوس وأكل الأكباد كما هو الحال في سورية.

الوجه الحقيقي للرأسمالية هو ذلك الوجه الذي حرم سكان الدول الفقيرة من لقاح كورونا، واحتكر أكثر من 96% من المطاعيم لصالح سكان الدول الرأسمالية. وهو الوجه الذي شمل المواد الطبية الضرورية لمواجهة وباء كورونا بالعقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على سورية وإيران وفنزويلا، مع التزام الأوروبيين “الأكثر إنسانية” بهذا الحظر.

أما أولئك السذج الذين يتغنون بصورة وزير أوروبي يذهب إلى عمله بالدراجة الهوائية، وآخر يشتري الخضروات من السوق الشعبي، وصور ناطحات السحاب والشوارع النظيفة والهبات والمساعدات التي تقدمها الرأسمالية لشعوبها.

كل ذلك يا عزيزي المأخوذ بالرأسمالية، قدموه لشعوبهم وتباهوا به بعد أن سرقوه من ثروات بلادك وسيادتك ودم مواطنيك وأهلك الذين أزهقت أرواحهم في حروبهم ومؤامراتهم.

في بلادنا نعرف أننا نفتقد للكثير، لكن معظم ما ينقصنا سببه النهب الذي تعرضنا له على يد الرأسمالية. علينا أن ندرك، مرة واحدة وللأبد، أنه لا يوجد سوى رأسمالية واحدة، مهما تعددت أسماؤها وتلونت مظاهرها، أو بدت لنا شهية كوجبة قيّمة من ماكدونالدز.

إنها رأسمالية بشعة ومجرمة لا ترحم أحداً، لا تقدم خدمة حتى لمواطنيها من دون أن تحصد مكانها مئات المكاسب. وهذه الرأسمالية هي عدوة كل الشعوب.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار