حساب الحقل وحساب البيدر
درج الفلاحون في بلادنا على اعتماد مقولة بسيطة تبين الاختلاف في حساب كمية وقيمة المحصول عندما يكون في الحقل، وعندما يصبح على البيدر, وقد عبروا عنها بالقول:”حساب الحقل غير حساب البيدر”
تطورت هذه المقولة وأصبحت ذات دلالة اجتماعية وسياسية تشير إلى الاختلاف بين ما يأمل به الإنسان وما هو قادر على تحقيقه.
فقد نعلق على مرشح خسر الانتخابات بالقول إن “حساب الحقل غير حساب البيدر”، ذلك أن السياسيين لا يتقنون تلك “الحسبة” في معظم الأحوال.
تميّز سياسيو الغرب الرأسمالي بعدم إتقانهم لحسابات الحقل والبيدر، ذات يوم من العام 1989، وبعد انهيار منظومة الدول الاشتراكية، نظر هؤلاء السياسيون إلى العالم وحسبوا مردود حقلهم (العالم) وأعجِبوا بالنتائج المتوقعة، وتصرفوا بناء عليها كسيد وحيد للعالم قادر على فرض إرادته على الجميع. لكن سرعان ما بدأ حساب البيدر يؤرق الدوائر السياسية الغربية؛ ففي العام 1990 سقط “معجزة تشيلي” أوغستو بينوشيه، وعام 1997 انهار المشروع الرأسمالي المسمى “النمور الآسيوية”، وتقدم اليسار في أميركا اللاتينية بفوز هوغو تشافيز برئاسة فنزويلا عام 1999، وإيفو موراليس برئاسة بوليفيا عام 2005، ليصل هذا الحساب ذروته بالانهيار المالي عام 2008 الذي كاد يطيح بالرأسمالية نفسها؛ وفتح المجال أمام ظهور قوى اقتصادية جديدة، مثل الصين، واستعادة قوى قديمة، مثل روسيا، جزءاً كبيراً من موقعها في النظام العالمي.
عاد السياسيون أنفسهم ومعهم عملاؤهم في منطقتنا إلى الحسبة نفسها في العام 2011، ومع وصول موجة ما سموه “الربيع العربي” إلى سورية ، ساد لديهم اعتقاد بأن مصيرها لن يختلف عن مصير تونس وليبيا ومصر، وتخيلوا ضمن حسابات حقلهم أن الأمر لن يحتاج سوى أسابيع ليصلي بعض قادتهم في المسجد الأموي فيما إرهابيوهم يتجولون في شوارع دمشق.
قادهم هذا الوهم إلى استثمار مليارات الدولارات والدفع بعشرات آلاف الإرهابيين من كل أصقاع العالم إلى الأراضي السورية.
جاء حساب البيدر بنتائج مختلفة، بعد الصمود الأسطوري للجيش العربي السوري، ودخول المقاومة اللبنانية، ممثلة بحزب الله، أتون المعركة، انكسرت شوكة الإرهاب وجاء تحرير مدينة القصير عام 2013 ليكون نقطة الانعطاف في سير المعارك، ويشكل بطاقة دعوة لالتحاق المزيد من الحلفاء إلى جانب الجيش العربي السوري، وليتوج هذا كله بدخول الحليف الروسي في أيلول 2015، ولتبدأ أحلام الغرب الاستعماري بالزوال.
كما هو متوقع لم يستسلم العدو لهزيمة مشروعه في الميدان، فانتقل إلى سلاح الحصار والعقوبات الاقتصادية، والتي أصبحت بموجب قانون قيصر الإجرامي تنال سورية وجميع الدول التي تتعاون معها اقتصادياً، ناهيك عن إطلاق حزم عقوبات ضد إيران وروسيا، وشخصيات وطنية لبنانية.
تحمس المتعاونون والعملاء مرة أخرى، وبالغوا في فرض الحصار على سورية، ورأوا أن حساب حقلهم يشير إلى إمكانية تحقيق أوهام “ربيعهم العربي” بسيف الاقتصاد بعد أن فشلوا بتحقيقها بسيف الإرهابيين.
ورغم نجاح سياسة الحصار في زيادة معاناة الشعوب في إيران وسورية ولبنان، إلا أن حساب البيدر لم يطابق حساب الحقل مرة أخرى؛ فالقيادات السياسية لمحور المقاومة تمسكت بثوابتها الوطنية ورفضت تقديم أي تنازل يمس سيادتها الوطنية، وقالت الشعوب كلمتها من خلال مشاركتها بانتخابات تاريخية في سورية وإيران، هذه الانتخابات حسمت جدل الأوهام الاستعمارية من خلال نسب المشاركة والنتائج، وأعلنت وقوفها وراء الخيارات السياسية والعسكرية لقياداتها.
ما زال العدو يحاول استعمال سلاح الاقتصاد ضد لبنان بهدف إضعاف المقاومة اللبنانية، فيهدد على لسان جوزيب بوريل، مسؤول الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بعقوبات أوروبية. الهدف من التلويح بالعقوبات فرض الأجندة الاستعمارية على جميع الأطراف اللبنانية من خلال زيادة معاناة المواطن اللبناني المعيشية.
لكن ما يدركه السياسيون جميعاً، أن هذه العقوبات لن تتجاوز التهديد لغياب أي أساس قانوني لها، كما أن الأطراف التي يمكن أن تقع تحت طائلتها إذا ما فرضت تحت ذريعة الفساد هي نفس الأطراف الموالية للغرب والمشروع الاستعماري، في حين أن قوى المقاومة وحلفاءها تخضع للعقوبات الأميركية ولن تأتي العقوبات الأوروبية بأي جديد بالنسبة لها.
يمثل التهديد الاقتصادي السلاح الأقوى بيد العدو، ولكي نكسر شوكة هذا التهديد لا بد من مشروع اقتصادي مقاوم يتجاوز الحدود السياسية ليخلق أمراً واقعاً يحبط مخططات العدو.
في سياق هذا المشروع تلعب الدول الحليفة مثل روسيا والصين دوراً حاسما خاصة في مجال الطاقة والطاقة البديلة، كما تلعب الأجندات الزراعية والصناعية دوراً مهماً في التكامل الاقتصادي بين دول محور المقاومة، وتساعد على تبادل السلع للتغلب على سطوة الدولار الاقتصادية.
حتى بعد حسم المعركة عسكرياً في مناطق الشمال السوري، أو سياسياً بتشكيل حكومة لبنانية متوازنة، فمن السذاجة الاعتقاد بأن المشروع الرأسمالي الاستعماري سيتراجع، بل لعله سيشدد هجماته على الجبهات الأخرى، وأهمها الجبهة الاقتصادية، ومسؤولية التصدي على الجبهة الاقتصادية لا تقع على دول محور المقاومة فقط، ولكن على القوى الداعمة للمشروع المقاوم في الوطن العربي والعالم.. هذه القوى مطالبة بعدم الاكتفاء بالدعوات والبيانات، بل بوضع ضغوط سياسية على حكوماتها لإعادة العلاقات الاقتصادية مع سورية، وذلك من خلال المؤسسات السياسية في بلدانها كالبرلمانات والأحزاب، والتحرك في الشارع عند الضرورة.
سننتصر في النهاية، أمر لا شك فيه، لأن منطق التاريخ يقول إن المحتل والمستعمر ينتهي دائماً إلى الهزيمة، لكن العمل المنسق على جميع الجبهات كفيل بتخفيف معاناة المواطنين وجعل لحظة النصر أقرب.
كاتب من الأردن