هل “إسرائيل” “دولة” فصل عنصري؟
لعل الخطاب الأكثر شيوعاً في محاكمة جرائم الكيان الصهيوني، هو وصف هذا الكيان بالعنصرية (أبارتهايد) وتشبيهه بنظام الفصل العنصري البائد في جنوب إفريقيا.
يلقى هذا الوصف ترحيبا مبالغاً فيه لدى غالبية المثقفين العرب، خاصة إذا صدر عن شخصية سياسية غربية، واقترن، كما حدث في المعركة الأخيرة، بطلب فرض عقوبات على “إسرائيل” كتلك التي كانت مفروضة على النظام العنصري في جنوب إفريقيا.
يعود التاريخ القانوني للرفض الدولي لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا إلى السنوات الأولى لتأسيس الأمم المتحدة. وكان القرار رقم (395) لعام 1950 أول قرار أممي يتحدث صراحة عن الفصل العنصري. اعتبرت “معاهدة الفصل العنصري” التي أُقرت عام 1973 إجراءات الفصل العنصري جرائم ضد الإنسانية (المادة 1 و2)، ووضعت تعريفاً دقيقاً لها في القانون الدولي.
كما أوضحت هذه المعاهدة المسؤولية والالتزام الدوليين فيما يتعلق بمحاربة جريمة الفصل العنصري، وفي العام 1977 تمت إضافة بروتوكول إلى معاهدة جنيف الموقعة في 12 آب 1949، والمتعلق بحماية الصراعات الدولية المسلحة (البروتوكول1 الملحق بمعاهدة جنيف 1949) والذي يصنف الفصل العنصري كجريمة حرب. كما أن قانون روما 1998 للمحكمة الجنائية الدولية يصنف الفصل العنصري كجريمة ضد الإنسانية (المادة 7)، ويجعل التحقيقات والمحاكمات المتعلقة بهذه الجريمة من صلاحيات المحكمة الجنائية الدولية. المشكلة التي يوجهها من يصفون الكيان الصهيوني بأنه نظام فصل عنصري، من خلال عقد مقارنات مع نظام الأبارتهيد في جنوب إفريقيا وناميبيا، أن دعواهم قابلة للدحض بسهولة من خلال حجج شكلية، منها تمتع الفلسطينيين في المناطق المحتلة بحق التصويت والتمثيل السياسي، عدم الفصل داخل المؤسسات، والسماح لبعض السكان بالانخراط في الجيش الصهيوني.
لكن الخطورة تكمن في أن أصحاب نظرية الفصل العنصري يعتمدون على نقطتين رئيستين، جدار الفصل العنصري الذي يخلق “بانتوستان فلسطيني” في الضفة الغربية، ويشكل نموذجاً صارخاً لممارسات الفصل العنصري، والخطورة هنا تكمن في أن نقطة انطلاق نظرية الفصل العنصري تبدأ بالتسليم بالأمر الواقع الذي خلقه الاستعمار بإنشاء “دولة إسرائيل”، وعدم طرح مدى شرعية قيام هذه الدولة، بناء على وعد بريطاني وموافقة أممية، واعتباره أمراً واقعاً يستحيل التراجع عنه.
النقطة الثانية التي يستند إليها منظرو فكرة الفصل العنصري هي قانون يهودية الدولة، وهو الأمر الذي أصبح مقبولاً عالمياً، وأشار إليه الرئيس الأميركي جو بايدن في حديثه عن المعركة الأخيرة عندما قال: (إن السلام لن يتحقق إلا عندما تحظى “إسرائيل” باعتراف جيرانها بصفتها دولة يهودية، وتتمكن من العيش بأمان). تكمن خطورة هذا الطرح في إمعانه في تقسيم الشعب الفلسطيني على أساس ديني (بعد أن تم تقسيمه على أساس جغرافي إلى ضفة غربية وقطاع غزة وفلسطينيي الداخل وفلسطينيي الشتات)، فمن جهة يوجد اليهود وفي الجهة المقابلة يوجد (الشعب الفلسطيني) بفئاته المختلفة المسلمة والمسيحية. وتصبح القضية الفلسطينية قضية حقوق مدنية تشبه قضية السود في أميركا في الستينيات، ويسقط عنها أي طابع وطني أو تحرري.
لا تمنع هذه المحظورات من مخاطبة العالم باللغة التي يفهمها، واللجوء إلى الإدانة القانونية للكيان حسب القانون الدولي، على أن يكون هذا الخطاب أحد أدوات النضال السياسي- القانوني الموجهة نحو الخارج.
أما الخطورة الحقيقة فتكمن في تحويله إلى وسيلة النضال الوحيدة التي يطرحها أصحاب مشاريع الاستسلام، سواء تلك القائمة على فكرة حل الدولتين، أو حل الدولة الواحدة.
في تقرير صدر عن مركز ديل- كارنيغي بعنوان “كسر الأمر الواقع بين “إسرائيل” وفلسطين وحمل توقيع مجموعة من الباحثين العرب والإسرائيليين من بينهم مروان المعشر؛ السفير الأردني الأسبق لدى الكيان الصهيوني، ووزير الخارجية الأردني الأسبق، وصدر في 27/4/ 2021، يحدد الباحثون هدف تقريرهم بإعطاء “الأولوية لحماية الحقوق والأمن الإنساني للفلسطينيين وللإسرائيليين.. إعادة تأكيد حقوق الإسرائيليين في الأمن والسلام وحمايتهما، وإيلاء اهتمام متساوٍ للحقوق الفلسطينية المهملة منذ فترة طويلة، بما في ذلك حرية التنقل والتحرر من العنف والسلب والتمييز والاحتلال”. إذا تجاوزنا عن المغالطة الرئيسة باعتبار الصراع يتعلق بالحقوق وليس الأرض، لا يستطيع القارئ إلا ملاحظة أن التقرير لم يمنح الفلسطينيين الحق بحماية حقوقهم كما فعل مع الإسرائيليين، مما يشير إلى أن التقرير يعتبر أعمال القمع ضد المقاومين أعمالا مشروعة لحماية أمن “إسرائيل”، وهو الخطاب الصهيوني بحرفيته (علماً بأن القانون الدولي يحمي حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال بالمقاومة).
ينطلق التقرير ليعيد تعريف الكثير من القضايا الجوهرية في الصراع العربي- الإسرائيلي، فقضية اللاجئين الفلسطينيين تحولت إلى قضية “انعدام الجنسية”. والمقاومة استهداف للمدنيين الإسرائيليين، ويجعل من شروط الانتخابات “أن تحترم حماس القانون الدولي وتمتنع عن استهداف المدنيين الإسرائيليين”، ويرى أن قضية الأسرى هي قضية “محتجزين لدى إسرائيل”، أما الشهداء فهم “قتلى العنف السياسي”!.
هذا الخطاب الذي تكثف واتسع خلال السنوات القليلة الماضية، وخاصة بعد انطلاق الربيع الصهيوني، أصبح يسيطر على أجواء المثقفين الفلسطينيين بشكل خاص، والعرب بشكل عام. ورغم أنه ينطلق في كثير من الأحيان من الحماسة والرغبة في الانخراط في العمل من أجل القضية الفلسطينية، إلا أن ذلك لا يعفي هؤلاء المثقفين من كونهم شركاء في خطاب خياني يسعى إلى تصفية القضية الفلسطينية لصالح العدو الصهيوني.
رغم أنه يجب الحذر عند التعامل مع أي من مؤسسات “الأنجزة”، فإن المطلوب تشكيل جبهة من المثقفين تتصدى لهذا المشروع الخطير، سواء من خلال فضح الجهات المتورطة وتفنيد تقاريرها وبياناتها بشكل منتظم، أو من خلال إعادة الاعتبار لبديهيات الصراع العربي- الإسرائيلي كونه صراعاً وطنياً تحررياً، ذا طبيعة إلغائية، وهو لا يقتصر على الصراع مع “إسرائيل”، بصفتها محتلة لأرض عربية، بل لأنه جزء من الصراع الوطني التحرري العربي والعالمي ضد قوى الاستعمار ومخططاتها.
*كاتب من الأردن