فوز الأسد وتحوّلات السياسة الدولية والإقليمية.. روبرت فورد ومراجعة الموقف من سورية

حشرت الأحداث في سورية خصوم الرئيس الأسد في مأزق تاريخي، بعد عشر سنوات من التقويض المستمرّ لكل محاولات تحقيق الإجماع الساحق لغزو سورية.

مثل هذا كان بالإمكان أن يحدث -وإن حدث جزئياً في مناطق معينة وعبر ضربات تكتيكية- لولا نجاح سورية في نسج تحالفات دولية حيّدت سلطة فيتو، وخلق توازن بعد منح روسيا فرصة استعادة قوتها وموقعها في الشّرق الأوسط من خلال تفعيل اتفاقية التعاون الإستراتيجي بين البلدين، الذي تأكد بشكل لافت وشامل في اتفاقية بوتين- الأسد في كانون الثاني/ يناير 2016.

كان خصوم سورية ينتظرون أن يخلو لهم المجال لإعلان سورية “منكوبة” لبدء مشروع الإعمار الذي يشمل وضع “حكومة انتقالية” بأجندات جديدة.

لقد بذل الغرب و”إسرائيل” وعدد من الدول العربية كل ما في الوسع في محولة لإسقاط الدولة السورية، غير أنهم كما سيؤكد رجل واشنطن السابق في دمشق، السفير روبرت فورد، لم يفهموا الوضع جيداً في سورية، قال ذلك فورد بعد سنوات من التحليل غير الواقعي.

لعل واحدة من مصاديق الجهل بما كان يجري آنذاك، هو اعتقادهم أنّ سورية باتت معزولة مثل العراق قبيل الغزو. لقد حاولوا أن يجعلوا من تواجد سورية في لبنان يومئذ منطلقاً لحركة “محاسبة سورية” من داخل الكونغرس، تماماً كما فعلوا بالعراق انطلاقاً من احتلاله الكويت.

اتخاذ قرار الغزو من طرف واحد كان ولا زال موضوع جدل، القرار الذي رفضت موسكو أن يتكرّر مع سورية، الحليف القديم والإستراتيجي لدمشق.. غير أنّ القياس هنا كان مع الفارق، لأنّ تواجد سورية في لبنان كان مطلباً أقرته جامعة الدول العربية واتفاق الطائف، الذي جاء في سياق إنهاء الحرب الأهلية في لبنان وتثبيت الاستقرار والأمن، بينما تواجد العراق في الكويت كان قرار غزو عارضته جامعة الدول العربية ومجلس الأمن.

بين انتخابات 2014 وانتخابات 2021 لا شيء تغير، ظلت انتظارات خصوم سورية على وضعها السابق، لقد غلب الحقد على السياسة، فحجب الواقع وقوّض فضيلة الاعتراف، فمع كل استحقاق، كانت شعبية الرئيس الأسد تتضاعف بشكل مضطرد. سنجد من المفارقة أنّ من سعوا لإسقاط الدولة السورية وقيادتها يتذرعون في مشاريعهم السياسية بالواقعية، لكنهم يفتقدون الواقعية في مقاربة الشأن السوري.

عشر سنوات كانت كافية لطيّ ملف سورية، حيث لا شيء تحقق من كلّ أحلام اليقظة السياسية، فالأسد يفوز للمرة الثانية بنسبة كاسحة من الأصوات.

وسيكون من الطبيعي أنّ تصيب هذه الانتخابات خصوم الأسد بخيبة أمل، لكن في نهاية المطاف هي لعبة الديمقراطية التي تعطي للشعب الحقيقي الحق في اختيار قادته. المعارضة التي لم ينتدبها الشعب، بل شكلت على امتداد السنوات الفارطة أذرعاً سياسية لخصوم سورية، عبّرت عن استياء كبير من نتائج الانتخابات. ومع أنّها انتخابات أظهرت إرادة الشعب السوري الذي ملأ الساحات في مشهد يؤكد شعبية الأسد في سورية، كما شهدت لها روسيا بالنزاهة ودول أخرى، نتحدث عن شهادة موسكو، لأنّها دولة عظمى ديمقراطية تؤمن بالانتخابات أكثر من كثير من خصوم سورية، ممن ليس لهم دستور أو تقاليد انتخابية، إلاّ أنه وعلى الرغم من ذلك يصفها برهان غليون الذي فشل في الحفاظ على منصبه داخل “الائتلاف”، و”كرئيس” مرشح يومها لتولي مجلس انتقالي في سورية في حال تمكن “ناتو” من تحقيق أجندته في غزو سورية، يصف الانتخابات الأخيرة بأنها “انتخابات العار”.

عنوان متوقع من معارضة في حالة ندب الحظّ العاثر، لكنه يعلل ذلك بأنّ المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية لم تصوت، وذلك باستعمال لغة لا تنتمي لعلم السياسة حيث يقول: “صوت الشعب بقدميه في مظاهرات لا حصر لها”.

التحليل النفسي لهذا يؤكد على أنّ منظّر الثورجية المزيفة يعبّر عن خيبة أمل لا تضاهى.

لم نقرأ أي رؤية سياسية في هذه النُّدبة السياسية، بقدر ما كان يسعى للتخفيف من وجع المعارضة السورية في الخارج التي راهنت على قوى دولية وإقليمية، في غياب أي تقدير للشعب السوري.. ففي كل استحقاق تتدفق الجماهير الشعبية السورية للتعبير عن ولائها للقيادة، يشعر أولئك بـ”النورستينيا” السياسية.

من يا ترى، يحتقر الشعب السوري ويرفض إرادته؟ من يفرض الوصاية على اختيار الشعب السوري؟ من يسخر من الرأي العام الدولي؟ وماذا يعني الرأي العام الدولي في نظر غليون؟ إنّهم خصوم سورية الإستراتيجيين.

إن سورية الأبية في نظر الغليون هي كيان تخيلي بلا قيادة ولا جيش ولا شعب، إنها صورة نمطية لمسرحية دامت عشر سنوات سخرت فيها المعارضة في الخارج من الرأي العام العربي وراهنت على خصوم سورية الشيء الذي تأكد في السنوات الأخيرة حيث المعركة باتت مباشرة وأكثر وضوحاً، لاسيما مع الاعتداءات المدعومة خارجياً ومن المعارضة نفسها، التي استهدفت البنيات التحتية للشعب السوري وفرض عقوبات اقتصادية زادت من معاناة الشعب السوري.

لم يتحدث غليون عن دور المسلحين في تخريب سورية، إنه يبرهن على خيبته بوجود من رفض التصويت للرئيس الأسد في المناطق المحررة. يعتبر غليون أنّ المناطق التي تحتلها تركيا والميليشيات الإرهابية والتي ترزح تحت الوصاية، هي بمثابة “مناطق محررة”.

غير أنّ الغباء يكمن في أنّه يتجاهل أنّ من صوت للرئيس، أمواج من الجالية السورية بالخارج، حتى أنّ بلطجية المعارضة اعترضت السوريين النازحين في لبنان لكي لا يتوجهوا إلى صناديق الاقتراع، التي نظمتها السفارة السورية في بيروت.

كما انتفضت جماهير عرب الجزيرة ضد ميليشيا “قسد “التي حاولت منعهم من التصويت. هؤلاء سوريون خارج سورية وتدفقوا للتصويت للأسد، ماذا في وسع غليون أن يقول عن الجماهير التي تدفقت في دوما؟

مشكلة غليون وعموم ما يسمى “المعارضة” التي سقطت في الخارج بمباركة “ناتو” وتوابعه، أنّهم يحلمون بسورية منزوعة السيادة.

لا يستطيع أن يسمي الأشياء بأسمائها، فهو يختزل التحالف السوري- الروسي- الإيراني بكونه “وصاية”، لكن تحالفهم مع “ناتو” وتوابعه لا يعتبر وصاية.

لا ندري كيف يمكن تصنيف ذلك في العلوم السياسية. وواضح أنّ “المعارضة” في الخارج لن يرضيها شيء في سورية، الشيء الوحيد هو حلمها باحتياز السلطة بقوة التدخل الخارجي. كانت ولا زالت السلطة أولوية لدى المعارضة، وهي اليوم تدرك أنّ أحلامها تبخرت، لأنّ الرأي العام الدولي أدرك مسألتين:

– بؤس المخطط القاضي بإسقاط الدولة السورية.

– الأسد هو الأوفر حظاً في كل الانتخابات

سبق وكتب برهان غليون كتابه “عطب الذات”، ويحاول شرح كيف تبخر ما اعتبره “الحلم”. إنهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، ولا أحد منعهم من المشاركة. “ديمقراطية” برهان غليون هي إذاً أن تصل إلى دمشق على دبابة أمريكية.

يبدو روبرت فورد الذي كان الناشط المباشر في الميدان، حيث ظل سفيراً للولايات المتحدة الأمريكية في سورية منذ بداية الحرب في 2011 حتى 2014، أكثر جرأة من غليون ليعترف بفشل الإستراتيجية الأمريكية في سورية.

وفي أحدث مقالة له في “فورين أفيرز”، وذلك في سياق وضع اقتراحات أمام إدارة بايدن لتفادي فشل سياسات ترامب في سورية. وعلى الرغم من أنّ ما ذكره فورد لا يخلو من حسابات عدوانية، باعتباره من أوائل المهددين للاستقرار في سورية عبر نشاطاته وتحركاته في درعا وحماة وغيرها من المحافظات يومها، يشير إلى حقائق أهم مما قاله برهان غليون. فهو أي فورد يعتبر أن إدارة ترامب أوقفت الانخراط في ما سماه بالهندسة الاجتماعية وإعادة بناء مجتمع ما بعد الحرب، مفضلة استعمال القوة العسكرية والضغط المالي وإنشاء “منطقة حكم ذاتي” للأكراد شمال شرق سورية، وهي بمثابة “دولة” تحت إشراف واشنطن، ولكنها حسب فورد لن يكون في مقدورها الاعتماد على ذاتها، بل ستتطلب موارد من الولايات المتحدة الأمريكية.

كل هذا المخطط فشل، بينما يقدم فورد خريطة طريق لبايدن قوامها سحب مئات الجنود الأمريكيين من سورية، والاعتماد على روسيا وتركيا في احتواء “داعش” في شمال شرق سورية، معتبراً أنّ التحالف الكُردي- الأمريكي قد تسبب في تفاقم التوترات الإقليمية القائمة منذ فترة طويلة بين العرب والأكراد. ويعتبر فورد أنّ تمكين الأكراد من وضع اليد على حقول النفط، خلق استياء كبيراً للسكان العرب. فتمكين الأكراد من شنّ حملات عسكرية ضد العرب، في بيئة تعيش على سبيل التوتر سيكون في نظره فرصة لـ”داعش” لاستقطاب الساخطين من السكان العرب. إن نقطة ضعف جوهرية أخرى في الإستراتيجية الأمريكية في نظر فورد، تتعلق بعدم احتواء تنظيم “داعش” في المناطق التي تقع تحت سيطرة القوات الأمريكية وميليشيا “قسد”. بل يعتبر سيطرة القوات الأمريكية في الربع الشرقي من سورية لن يحل المشكلة، بل يضيف بأنّ معاقبة حكومة دمشق يحرمها من الموارد الكافية لمواجهة الجماعات المتطرفة. الحل في نظر فورد هو تسليم شرق سورية إلى الروس لمحاربة “داعش”، باعتبار أنّ ذلك سيمنع من بناء الأخير قاعدة في سورية للانطلاق إلى تهديد المصالح الأمريكية في مناطق أخرى، يقول فورد: “يفتقر النهج الأمريكي الحالي إلى نهاية قابلة للتحقق”.

يدعو فورد الإدارة الأمريكية لتفعيل الدبلوماسية والاعتماد على كل من روسيا وتركيا، وهو يدرك أنه أمر لا يسرّ، ولكن المصلحة تدعو لذلك حيث “الاعتراف بمصالح هذين البلدين في سورية قد يؤدي إلى نتائج أفضل. وحسب فورد روسيا ليست شريكًا مثاليًا، لكن دعمها للرئيس الأسد يجعلها القوة المناسبة لتولي القتال ضد “داعش”. تلتزم موسكو بضمان بقاء الحكومة السورية، كما أن عودة ظهور “داعش” – التي يُحتمل أن تمولها سرقة حقول النفط السورية التي تم الاستيلاء عليها من قبل ميليشيا “قسد” ستهدد الرئيس الأسد بشكل خطير. للاستفادة من هذا الشريط الضيق من الأرضية المشتركة، يجب على إدارة بايدن إبرام صفقة تفوّض موسكو مهمات مكافحة “داعش “على جانبي نهر الفرات، وسيتطلب هذا حتمًا زيادة التواجد العسكري الروسي في شرق سورية، وستحتاج الولايات المتحدة إلى التفاوض على انسحاب تدريجي لقواتها ووضع جدول زمني للانتقال من السيطرة الأمريكية إلى السيطرة الروسية”.

يحث فورد إدارة بايدن للتعاون مع تركيا، وهذا سيكون أسهل إذا توقفت عن دعم القوات الكردية. لقد اعترف فورد بقدرات روسيا وتعاونها مع سورية. بل يجب على بايدن في نظر فورد” تجنب مفاجأة شركاء الولايات المتحدة الأكراد بهذه الإستراتيجية الجديدة؛ ويجب على إدارته إبلاغهم في وقت مبكر بشأن الخطوات الأمريكية الوشيكة.

كانت “قسد” و”وحدات حماية الشعب” شريكين جيدين في القتال ضد “داعش”، وسيكون من الحكمة أن يواصل الروس العمل معهم بموجب ترتيب جديد. موسكو لديها خبرة في هذا المجال: أنشأ الروس، وسلحوا، ويشرفون حاليًا على “الفيلق الخامس” من المقاتلين الموالين لدمشق الذين يقومون بمهام في جميع أنحاء البلاد. بالاشتراك مع الحكومة السورية، يمكن لموسكو إنشاء “الفيلق السادس” الجديد المكون من أعضاء “قسد” تحت القيادة الروسية. على الرغم من المساعدة الكردية القيّمة في القتال ضد “داعش”، فإن الولايات المتحدة لا تدين لهذه الجماعات بمظلة عسكرية غير محددة على حساب دافعي الضرائب الأمريكيين. فالمصلحة الوطنية للولايات المتحدة هي احتواء التهديدات الإرهابية، وليس ضمان شكل الحكم في شرق سورية بشكل منفصل، سيتعين على حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب التفاوض مع دمشق حول الوضع السياسي للأراضي التي يسيطرون عليها. يمكن لعلاقة حزب الاتحاد الديمقراطي الطويلة الأمد مع الحكومة السورية أن تسهل هذه العملية”.

وفي هذا المقترح من فورد للإدارة الأمريكية ما يؤكد على أهمية الاتفاق بين الحكومة السورية والأكراد عام 2012، فلقد اعتبره ناجحاً وعلى “قسد” أن تبني عليه.

يدرك فورد أن قراراً كهذا من شأنه أن يثير احتجاجات من بعض الأمريكيين، لكنه ينصح الإدارة الأمريكية بأن واشنطن ليست مدينة لوحدات حماية الشعب و”قسد” بمظلة عسكرية غير محددة على حساب دافعي الضرائب الأمريكيين حسب وصف فورد.

وبالمختصر المفيد والواضح يقول: “فالمصلحة الوطنية للولايات المتحدة هي احتواء التهديدات الإرهابية، وليس ضمان شكل الحكم في شرق سورية”.

ويدعو فورد الإدارة الأمريكية إلى نهج واقعي بخصوص انتزاع تنازلات سياسية من سورية. ومع أن فورد من أوائل من راهن هو نفسه على مخططات “إسقاط” سورية إلاّ أنه يقلل من الخوف من أن يكون ذلك سيمنح روسيا وإيران فرصة للسيطرة على سورية، لأنه يذكر بأنّ الروابط السياسية والعسكرية ظلت لعهد طويل بين البلدين، مذكراً بوجود علاقات وثيقة بين أمريكا من جهة وروسيا وسورية من جهة أخرى منذ الحرب الباردة. كانت روسيا موجودة قبل 2011 كما أن وجود إيران هو كما وصفه طويل الأمد، حتى أنه ذكر الإدارة الأمريكية عندما كان قبل عشر سنوات سفيراً لواشنطن في دمشق، بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتقاسم مبنى سكنياً مع أعضاء الحرس الثوري الإيراني. ويؤكد فورد بأن الدوريات الأمريكية الصغيرة في شرق سورية لن تغير من تلك العلاقات الثنائية.

من الواضح أن فورد غيّر تصوره حول سورية، ليس لأنه غير من ميله الشديد لإسقاط سورية، ولكنه أدرك بأنّ لأمريكا مطالب محددة في سورية لا يمكن أن تتطلب كل ذلك الإنفاق من دون جدوى. وهو بعد عشر سنوات عاد إلى كل النتائج التي استشرفناها في موضوع سورية وما يمكن أن يحدث في المنطقة من جراء هذا الاندفاع اللاّواقعي لتدمير بلد إستراتيجي في المنطقة.

ومع أنّ الخبراء الأمريكيين أنفسهم يسجلون تحولاً ملحوظاً في قراءة المشهد السوري، إلاّ أنّ ما يسمى بمعارضات الائتلافات وتيار الإخوان لم يتغير في قراءته لسورية، لأنّه ارتهن للحقد أكثر من السياسة، لا أقول العقيدة، لأنّ عشرية العدوان أكدت على أنّ موقف الإخوان ليس عقائدياً وإنّما نابع من حقد تاريخي على سورية، وهو ما تسبب في كل هذا الخراب.

*كاتب من المغرب

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار