انتفاضة القدس والمآل الحتمي للاحتلال..هل يمكن تكرار تجربة الهنود الحمر في فلسطين؟
لانتفاضة المقدسيين مغزى استثنائي في تاريخ الكفاح الفلسطيني، لعلّ العنوان الأبرز لهذه الانتفاضة، هو أنّ فلسطين قضية أكبر من أن يبتلعها وعد بلفور، وبأنّها أعقد من أن يتمّ التعامل معها بلهجة المقاول كوشنر الذي اعتبرها نزاعاً عقارياً، بل هي قضية مرتهنة لتحدٍّ جيو-إستراتيجي وحضاري، لعلّ الاحتلال المباشر هو أضعف حلقة في هذه المعادلة.
إنّ محاولة الاستفراد بالشعب الفلسطيني والعمل الممنهج على تصفية قضيته العادلة، عن طريق تكرار فكرة التقادم والتصفية التي استعملت في حقّ الهنود الحمر، هي قضية خاطئة ومبنية على جهل كبير بعلم الحضارات وتاريخها فضلاً عن الجغرافيا السياسية.
لنتحدّث عن ذلك المعطى الثابت والذي يعني أنّ الالتفاف بالقوّة على المبادئ العادلة التي تتعلق بالحق التّاريخي في الأرض والوجود والعدالة، لا يمكن أن يتحقق على الآماد الأبعد للتّاريخ.
لا توجد قوة أقوى من قوة الشعوب بما في ذلك القوة النووية، ذلك لأنّ كل قوة هي نافذة، لكن لا حدود لقوة الشعوب، لأنها مستمرة سُلالياً وتحمل ذاكرة غير قابلة للنفاد، ورغبة لا حدود لها في الثّأر.
من الناحية الجيو-إستراتيجية، أحبّ أن أذكّر بأهمية الربط بين الجغرافيا السياسية والتّاريخ، وهي فكرة أثيرة عند إيف لاكوست، وهي كذلك عند التّأمّل. إنّ الأمم ترهن تاريخها بقدر ما تخطئ في حساباتها الجيوسياسية.
نحن أمام صراع تأويل تاريخي، والغلبة تظل للتاريخ لا للأسطورة. نميّز هنا بين أسطورة مستقيلة لا تستند إلى تاريخ، وبين أسطورة تستند إلى تاريخ. تُستنفذ الأساطير كما تُستنفذ كل أنماط القوة الممكنة لها على حساب الحق التّاريخي.
قلت إنّ القوة معرّضة للتلاشي، ليس من الناحية الفيزيائية فحسب، وهذا أمر لا خلاف حوله، ولكن أتحدّث عن تحوّلات علاقات القوة بالمعنى العسكري، لأنّ القوة تحتاج إلى بيئة وشروط الفعل، فإذا غابت تلك الشروط، أصبحت القوة عاجزة، ولقد أثرنا مراراً ذلك وبشواهد من الخبرة العسكرية كما عند الجنرال روبرت سميث وأيضاً من موقع الخبرة في العلاقات الدولية كما عند برتراند بادي. عند الأوّل تمّ تحييد القوة العسكرية وتغير مفهومها حينما باتت حرباً داخل المجتمع وبين الناس، وليس في الجبهات بين القوات المسلحة، أي حينما بات بنك الأهداف غير المعلن للحروب الكلاسيكية يوجد داخل المجتمع، وبالنسبة للثاني، حين انتهى إلى النتيجة نفسها معلناً لا قوة القوة أو عجز القوة. وأضيف إليهم موقف إيف لاكوست، حيث أوشك أن يتنكّر لمفهوم الجغرافيا السياسية كمفهوم طارئ.
لن يكون الاحتلال إذاً استثناء من هذه الحقيقة، بل إنّنا نجد أنّ الاحتلال المفرط في القوة، أضاف إلى هذه القوة، أساطير لعبت دوراً في الحرب النفسية لعقود من الزمن، أي غطّت عن عجز القوة وحجبت لا جدواها.
ولقد تهاوت تلك الأساطير تُباعاً، كما أنّ الباراديم القوي نفسه الذي أثاره الجنرال البريطاني حول نهاية جدوى القوة، يجعلها في وضع مضاعف في حالة الاحتلال، لأنّ حرب الاحتلال لن تكون إلاّ حربا بين النّاس. كما أنّ المجتمع الدولي، بات واعياً بعجز القوة عن تحقيق أي هدف سياسي حقيقي. بل يمكننا القول، بأنّ فكرة كلاوزفيتش بأنّ الحرب هي استمرار للسياسة بطريقة أخرى، باتت فكرة متجاوزة.
ويبدو في هذا السياق نفسه، أنّ واحدة من مؤشرات تلاشي القوة، حين تعجز عن تحقيق أهداف سياسية، وأيضاً، وهذا هو المهم، حينما تتحوّل إلى حالة ذُهان. وهي الحقيقة نفسها التي أصبحت تشكل قناعة للمستوطنين أنفسهم، كما يكتب آري شبيت من الأراضي المحتلة نفسها في هآرتس، حيث يؤكد بأنّ سلطة الاحتلال باتت عاجزة عن إنهاء الاحتلال وبأنها اجتازت نقطة العودة، مشيراً إلى مقترح زميل له هو روغل ألفر قبل سنتين، الذي دعا إلى مغادرة البلاد وتوديع الأصدقاء قبل الانتقال إلى سان فرنسيسكو. يقول آري شبيت إننا حاربناهم بالعقول فإذا بهم يستولون على القمر الصناعي “عاموس”، ليدخلوا الرعب إلى كل بيت في “إسرائيل”.. والحل حسب الكاتب نفسه: إننا نواجه أصعب شعب عرفه التاريخ، ولا حلّ معهم سوى الاعتراف بحقوقهم وإنهاء الاحتلال.
أعود لموضوع الاستفراد بالشعب الفلسطيني وتصفية القضية الفلسطينية على طريقة الهنود الحمر، فهذا مستحيل من ناحيتين:
– الناحية الجيوسياسية:
لم تخل هذه المنطقة من شعب مأهول، فهي، أي فلسطين، موصولة بأطراف أمّة تشكّل، حتى في ظلّ تجزئتها، محيطاً جيوسياسياً فاعلاً ومنفعلاً بهذه القضية التّاريخية. وهي قضية تقع في منطقة حيّة جنوب الهارتلاند حسب ماكندر، بل مع اكتشاف الطاقة باتت محور العصب والعُصاب الدّولي. في كلّ هذا التاريخ الأقدم منه والأحدث، لم تخل المنطقة من وجود فلسطينيين، ليس كسلالة بشرية فحسب بل ككيان ثقافي واجتماعي.
– الناحية الحضارية:
أما من الناحية الحضارية، فلقد كانت فلسطين منذ كانت واحدة من المتصرفيات التابعة للإمبراطورية العثمانية، كانت على نمطها في الثقافة والاجتماع كجزء من العالم الإسلامي، لم تكن إلاّ فلسطين، حيث حتى داخل الإمبراطورية العثمانية حافظت على تميّزها الاجتماعي والثقافي والإداري.
وحتى لما جاء الاحتلال البريطاني كان اسمها فلسطين في الأوراق الرسمية والإدارية الثبوتية. لقد أنتج الإنسان الفلسطيني ثقافة وحضارة على هذه الجغرافيا، بها ترسخ وجوده في الزمان والمكان. إنّه الكائن المتحضر الأول في منطقته، لأنّه كان المزارع الأوّل، ففي الموجة الحضارية القديمة كانت الزراعة هي الوجه الحضاري القديم لفلسطين.
إنّ مثال الهنود الحمر هنا ضرب من القياس مع الفارق، لأسباب سأشرحها هنا من خلال المنظور الحضاري للأزمة، وهو أنّ الهنود الحمر الذين تعرضوا للإبادة، تم الاستفراد بهم من حيث قدرهم الجغرافي، حيث العزلة القارية، ويضاف إليها عزلة ثقافية من حيث أنّ الهنود الحمر لم يكن لهم تاريخ مكتوب، ولا كان لهم نمط تفكير متقارب، كانوا مختلفين منطقاً وثقافة ونمطاً، أي بتعبير آخر كانوا كالتالي:
– شعب يعيش على نمط الثقافة الشفهية، ليس له تدوين.
– شعب لم يفكر إلا في عالمه، أي خلو ثقافته من البعد الكوني-universel-
– شعب يفكّر من خلال أساطيره التي أنتجها في محيطه وبيئته الثقافية، فكانت أزمة تواصل بنيوي، نظراً لغياب الرؤية الكونية.
– شعب يعيش في ظل نظام قبائلي ما قبل دولتي: مجتمع اللادولة بتعبير كلاستر..
هذه وعوامل أخرى، ساهمت في الاستفراد بمجتمع الهنود الحمر ونسيان القضية وتجاهلها، فضلاً عن أنّها قضية تمّت قبل انتظام المنتظم الدولي وبروز هيئة الأمم المتحدة. بتعبير آخر: لم يدوّن الهنود الحمر مذّاك قضيتهم.
لقد قدّم كتاب كثيرون روايات موثقة عن تفاصيل تلك الإبادة، وفي طليعتهم الصديق منير العكش، حيث قيمة ذلك، أنّه كسوري من أصول فلسطينية كان مُدركا لهذه العلاقة النظرية بين إبادتين. لكن ماذا عن فلسطين؟
أوّلا، إنّ الشعب الفلسطيني لا ينتمي إلى المجال الوحشي أو البدائي الذي عنيت به الدراسات الأنتربولوجية التقليدية، وذلك لسبب بسيط، هو أنه ينتمي للشعوب الكتابية، بل إنّه سليل شعوب الهلال الخصيب التي يعود لها الفضل في ابتكار الكتابة كالسومريين وتعميم الحروف والأرقام كفنيقيا. وتعتبر فلسطين مهد الأديان السماوية، حيث دارت كبرى الأحداث الروحية هناك، ومن هناك انطلقت دعوة المسيح التي يدين بها الغرب نفسه.
وإن كان ليف بروهل قد وصف بما يكفي، نمط التفكير البدائي لتلك الشعوب البدائية باعتبارها لا تفكّر بطريقة التعليل المنطقي(causalite)، فإنّ فلسطين تنتمي لمجال جيو-حضاري وتاريخي لعب دورا في نشأت الكاطيغورياس نفسه، أي أننا إن شئنا القول على طريقة مؤرخي الملل والنحل عندنا، فإنّ فيثاغورس تلقى تعليمه في صيدا كما طاليس في مصر، فضلا عن أنّ الإرث اليوناني الذي تحول إلى ميراث عالمي، ساهم العرب والمسلمون في نقله لأوربا، لتولد هذه الأخيرة من جديد، أو بتعبير فلسفي: لتستعيد تفكيرها الإغريقي بشكل مختلف عن المرحلة الرومانية، حيث نستطيع أن نقف على آثار الثقافة العربية والإسلامية في موروث السكولاستيكية اللاّتينية حتى آخر طبقاتها المتجددة مع دان سكوت الذي أعاد اكتشاف أرسطو عن طريق ابن سينا. لا زلنا أمام دعوى قائمة منذ هذا الرعيل إلى آخر عناقيد التأثيل الأغريقاني مع مارتن هيدغر، نذكر الغرب، بأهمية العودة إلى اللحظة السكولاستيكية لإعادة ضبط البدايات.
بروهل، وإن كان هذا نقاش له تفاصيله، في عملية اختزال تفكير الشعوب البدائية في أنها لا تفكر كالغرب بطريقة علّية وسببية، فإنّ الشعب الفلسطيني ينتمي لما أسميه بمجال التفكير الكاطيغورياسي المقولي المنطقي، أي أنّ الشعب الفلسطيني يفكّر كالغرب وبطريقته وبمقولاته الكونية، شعب تشكل تراثه من رسالة الأديان السماوية، وفلسفيا وعلميا ورياضيا وفنيا على النمط الكوني. لا يمكن أن نبيد شعبا يشاركنا تاريخيا نمط التفكير المقولي. إنّ فلسطين، والهلال الخصيب، لا يمكن اعتباره شرقا بالمعنى الحضاري. حتى هيغل الذي لم يخرج عن الأثر العنصري في التاريخ، لم يعتبر المنطقة ما قبل الحدود الهندية شرقا، بل اعتبرها غربا، وبأنهم يفكرون مثلنا. ولئن كانت فكرة هيغل في الصراع هي التي ستنتقل عبر سلالة من مؤسسي الفلسفة السياسية لليمين المحافظ، فإنّ تكرار تجربة الهنود الحمر في فلسطين، تعتبر أغبى فكرة في تاريخ الاحتلال.
إنّ فكرة تصفية القضية الفلسطينية عبر تحريف التاريخ وتعويضه بالأساطير، أو تكريس صورة عالم مختلف عن الغرب قابل للتصفية والإبادة، هي أمر مستحيل. ومن هنا، فإنّ فكرة الإبادة تبدو فكرة هجينة، وهذا ما يجعل مصير الاحتلال في المنظور التاريخي محسوما، لأنّه لا يقوم على أي شرعية تاريخية وجيوسياسية أو حضارية، بل حتى علاقات القوة وأنماطها تتحرّك بشكل يكشف عن حالة ذُهان مستعصي لا مخرج منه إلاّ عن طريق نفاذ القوة وكل الخيارات لصالح تفكك كيان الاحتلال، وهو تفكّك حتمي باتت له تجلّيات. إنّ القوة المفرطة للاحتلال هي تعبير عن ذُهان، أي التّحوّل ناحية عجز القوة نفسها.
كاتب من المغرب