“أنه ليس فقط ما تشتريه.. ولكن ما تشتريه معه”

يمثل هذا الإعلان الذي خرجت به سلسلة ستاربكس الأميركية، الروح الجديدة للرأسمالية. فالهدف من شراء السلعة لم يعد الحاجة أو الرغبة باستهلاكها فقط، ولكن خوض التجربة التي تمنحها لك عملية الشراء.

لعل النموذج الأشهر هو السلع التي يترافق الإعلان عنها مع تخصيص جزء من ريع عملية البيع للتبرع لمشاريع بيئية، مثل تنقية مياه البحار أو توفير المياه الصالحة للشرب للفقراء، أو مشاريع إنسانية مثل مساعدة الأيتام أو علاج السرطان. فأنت بشرائك تلك السلعة، حتى لو لم تكن راغباً بها أو محتاجاً لها، تصبح جزءاً من قضية إنسانية كبرى. تستطيع القيام بذلك وأنت جالس على أريكتك مرتاحاً تشرب فنجان قهوتك أو زجاجة مياهك المعدنية، من دون الحاجة للنضال أو التظاهرات أو الثورة. مجرد كبسة على جهاز الهاتف النقال تجعلك ناشطاً بيئياً أو إنسانياً.

لقد تجاوزت الرأسمالية مجتمع الاستهلاك بشكله التقليدي، لتقدم لنا، من خلال روحها الجديدة، مجتمع “الاستهلاك الممتع”. فالسلعة لم تعد “صنماً” بذاتها، بل تحول التجربة نفسها إلى “صنم” تم تغليفه بمجموعة من القضايا الإنسانية الكبرى ليبدو حياً ومتفاعلاً مع الواقع، من دون أن يخسر جوهره الصنمي الاستهلاكي.

إذا كنت من الأغنياء الذين يغضبون من النظرة الحاقدة في عيون الفقراء، فما عليك سوى شراء الخضروات العضوية بأسعار باهظة لكي تصبح شريكاً في عملية إنقاذ البيئة، أو شراء منتج يترافق مع تخصيص جزء من الأرباح لأطفال إفريقيا، فتحصل على العفو عن كل ما ارتكبته بحق الإنسانية في طريقك لجمع ثروتك، وتصبح مناضلاً ملتزماً بالقضايا الإنسانية مثل بيل غيتس.

ينطبق الأمر نفسه على موقفك السياسي، فأنت بارتباطك بالرأسمالية تعلن عن “التزامك بمبادئ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان”. أما إذا اخترت أن تكون وطنياً ملتزماً بقضايا ومصالح أمتك والدفاع عنها، فهذا يعني التزامك بالديكتاتورية والشمولية والانغلاق. يصادف معظمنا عند الدخول إلى منتجع أو فندق أو مجمع تجاري لافتة تقول ما معناه: “لكي نضمن لزبائننا تجربة ممتعة فهذه المنطقة خالية من التدخين، والمخالف يدفع غرامة قدرها..”. لو أعدنا قراءة هذا الإعلان بتمعن لوجدناه يقول: “إذا فشلت بالاستمتاع حسب شروطنا فسوف تدفع غرامة مقدارها..”.

إذا ذهبنا إلى الصورة الأكبر سنجد أن الرأسمالية تقول لنا: إذا أردت الاستمتاع بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان عليك تبني النظام الرأسمالي بشقيه السياسي والاقتصادي، في حال عدم رغبتك بذلك فإننا مضطرون لحصار بلادك اقتصادياً، وحتى احتلالها عسكرياً وفرض حكومة توافق على تمتع الشعب بخيرات النظام الرأسمالي!

يضعنا هذا السياق في مواجهة فكرة “حرية الاختيار” التي تعتبر أحد أهم ركائز الفكرة الليبرالية. عندما تقوم بحجز تذكرة طائرة من خلال الحاسوب، تجد أنه متاح لك اختيار مقعد على الممر أو النافذة. نظرياً أنت تملك الخيار، لكن عملياً أنت لا تملك سوى الخيارات التي تقدمها شركة الطيران (الممر أو النافذة). يقدم لك النظام الديمقراطي الليبرالي نفس الخيارات، فأنت حر في الاختيار بين ترامب أو جو بايدن، ماكرون أو لوبان. في كلتا الحالتين أنت تختار النظام الرأسمالي. بالنسبة للأنظمة الوطنية الموسومة بالديكتاتورية، فهي أمام خيارين، الرأسمالية أو الحرب. أنت مجبر على أن “تبدو حراً” في اختياراتك، وإن كانت العملية كلها تنطوي على خيار وحيد ممكن هو الرأسمالية. لعل أدق من وصف حرية الاختيار الليبرالية هو الفيلسوف الإنكليزي جون غراي عندما قال: نحن مكرهون على الحياة كأننا أحرار.

هذا التركيز على “حرية الاختيار” يتعامى بشكل جذري عن فكرة القدرة على الاختيار. المواطن الذي يعيش في المجتمعات الرأسمالية تحت وطأة التهديد المستمر بالأزمات وفقدان الوظائف والمدخرات، لا يملك حرية الاختيار بما يرغب به فعلاً، ولكنه يسعى لاختيار ما يعتقد أنه يحميه من هذه المخاطر. لقد طوّر النظام الرأسمالي ديمقراطيته الليبرالية بطريقة تجعل الخيارات محصورة بالرأسمالية نفسها، من دون أن يمنع ذلك منحك الفرصة “الوهمية” للاعتقاد بأنك اخترت من بين خيارات متعددة. فتظهر أسماء بلا فرص مثل بيرني ساندرز، أو جيرمي كوربن. الغاية من وجود هؤلاء تعزيز ثقتك بالديمقراطية الليبرالية، فقد خسروا في انتخابات “نزيهة وشفافة”، عليك الاقتناع بهذه الحقيقة رغم أنك تعرف بأنه لم يكن أمامهم فرصة للفوز.

ما تفعله الرأسمالية أنها تحاول الظهور بمظهر القدر الذي لا مفر منه. لكن التاريخ قدم لنا نماذج بارزة لرفض هذه الهيمنة، في كوريا وفيتنام وكوبا وفنزويلا ودمشق وطرابلس وصنعاء. عندما قامت هذه الدول باختيار الاستقلال الحقيقي والإرادة الحرة فإنها “اشترت” معها الحرب، والحصار الاقتصادي، والمؤامرات الاستخبارية، وفي زماننا برزت الحملات الإعلامية المركزة التي تعمل على نشر البلبلة في الجبهة الداخلية. مضمون هذه الحملات لا يختلف عن إعلان ستاربكس؛ لقد اختارت دولكم شراء العداء للرأسمالية، واشترت معه المعاناة التي تعيشونها. لقد اعتادت الرأسمالية عبر تاريخها على استخدام الحروب لمواجهة أزماتها الداخلية (الحروب العالمية، الحرب الباردة..)، وهي اليوم تعيش واحدة من أخطر أزماتها، لذلك تنشر حروبها في كل بقاع العالم.

عندما تصدينا للمخططات الاستعمارية، كنا نمارس الاختيار الحر الحقيقي. لم نرغب بالسقوط ضحايا “للاستهلاك الممتع”، وأن نشتري معه كل مثالب النظام الرأسمالي مغلفة بورق سوليفان لامع اسمه الحرية والديمقراطية. اخترنا حرية الشعوب والإرادة. لم نفعل ذلك مع انطلاق هجمة “الربيع العربي”، بل اخترناه منذ زمن طويل، مع نضالنا ضد الاستعمار، في ثورة يوليو/ تموز 1953، و8 آذار 1963، وثورة اليمن، وثورة الفاتح. أصبنا وأخطأنا، نجحنا وفشلنا لكن التزمنا خط النضال والمقاومة. واليوم نحن مطالبون بخوض الحرب العسكرية والاقتصادية بتفاؤل الثائر وعنفوانه، من دون أوهام المصالحة مع المشروع الإمبريالي. كنّا ثواراً وعلينا أن نبقى كذلك.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار