عالم ساخر جداً

هذا هو عالمنا اليوم، فضاء مليء بالسخرية والتهكم من كل شيء، سواء كان مضحكاً فعلاً، أو كان مؤلماً وقاسياً.

لا يبدو أن هناك ما يقدر على إيقاف سيل النكات والتعليقات والصور التي تحول العالم إلى مسرح اللامعقول، وتحول ساكنيه إلى مجموعة من المهرجين الذين يتبادلون الأدوار، تصعد مجموعة إلى المسرح لتلقي النكات، وتقوم المجموعة الأخرى بالضحك ثم يتبادلون الأماكن والأدوار. نجتهد جميعاً في إقناع أنفسنا أن هذه السخرية نابعة من الواقع، وأنها وسيلة الفرد للتعبير عن اعتراضه على مرارة الواقع وقسوته، وعجزه كفرد عن تغييره.

لو جرّب أحدنا تحليل ظاهرة السخرية والتهكم على أنها فعل سياسي مقصود ومخطط له من الرأسمالية العالمية، فسرعان ما سيتهم بأنه من أتباع نظرية المؤامرة، وقد يصبح هذا التحليل نفسه مادة لنكتة جديدة، مثل “كن نكداً لتهزم الرأسمالية”!

يتناسى هؤلاء الغاضبون (جهلاً أو عمداً) أن ظاهرة السخرية ولدت في الغرب الرأسمالي من خلال البرامج الحوارية المعروفة بـTalk Shows، حيث يستقبل المذيع شخصية سياسية أو فنية أو اجتماعية معروفة وينهال عليه بأسئلة لا علاقة لها بدوره الفني أو السياسي أو الاجتماعي. ويستعرض صوراً وحوادث مضحكة من حياة هذه الشخصية مترافقة بتعليقات ساخرة من الجمهور. يجد الضيف نفسه مضطراً للانخراط في اللعبة ويبدأ بالسخرية من نفسه ومن الآخرين، وتنتهي الحلقة بتصفيق وآهات الحاضرين مع توزيع بعض الهدايا بشكل عشوائي. بعد فترة يتحول المذيع نفسه إلى شخصية عامة ويصبح قائداً جماهيرياً كما حدث مع أوبرا وينفري.

في مرحلة لاحقة ظهر نموذج جديد من هذه البرامج يخلط بين السخرية والأخبار، وعادة ما يقدمه مذيع منفرد.

يتناول المذيع أحد الشخصيات أو الأحداث، ويضعها في قالب كوميدي من خلال اجتزاء الأحاديث واستخدام الصور الملفقة وعقد المقارنات والتركيز على المفارقات.

يستقطب هذا النوع من البرامج جمهوراً واسعاً، وتحول مقدموه إلى نجوم يكسبون الملايين، ومن أشهرهم جون ستيوارت، وتريفور نوا، وفي بلادنا لمعت أسماء مثل باسم يوسف وجو شو.

النموذج الأكثر شعبية وانتشاراً في المقاهي والمسارح إضافة إلى الشاشات هو ما يعرف بـStand-up Comedy المؤدي يقف على المسرح ليقدم مجموعة من المفارقات المضحكة، ومعظم هؤلاء يستندون إلى تجاربهم الشخصية أو خلفياتهم الإثنية. يمكن أن نرى شخصاً أسود يتهكم على السود وتصرفاتهم، ويروي قصصاً مضحكة عن المواقف العنصرية التي يتعرضون لها، أو أميركياً مسلماً أو عربياً يسخر من الحضارة العربية الإسلامية والعادات الاجتماعية، وبنفس القدر يسخر من السلوك العنصري تجاهه في الشارع أو في مراكز الشرطة.

نفس الأمر ينطبق على الآسيويين، النساء، الأطفال، والبيض.. كل شيء في هذا العالم قابل للتحويل إلى حالة من الكوميديا المبتذلة في الكثير من الأحيان.

كل هذه البرامج تشكل مفاصل الإعلام المعادي وتعمل على تحويل قسوة الواقع الرأسمالي إلى ملهاة، المهرجون الحقيقيون هم الجمهور الذي ينخرط في اللعبة وليس المؤدون الذين يعتلون المسرح.

فالأمر يتجاوز قيام الكوميدي بإطلاق نكات لا يصدقها أحد لكنهم يضحكون عليها، ليتحول إلى شخص يطلق مجموعة من النكات ويروي قصصاً ساخرة يصدقها الجميع.

تقوم بنية الإعلام المعادي على إيصال رسالة مفادها أن العالم الذي نعيش فيه ليس أفضل ما يمكن الحصول عليه، لكنه بالتأكيد الأقل سوءاً.

فنحن (في النظم الرأسمالية) قادرين على انتقاد أخطاء نظامنا بعكس الآخرين.

ولأن بنية الإعلام المعادي لا تترك شيئاً للصدفة، تقوم المؤسسة الدعائية الرأسمالية بإعداد الدعاية المعاكسة في لغتها وجديتها لكنها تنتهي إلى تأكيد نفس الرواية وتبسيطها.

هذه الرواية المعاكسة ترطن ليبرالياً في حديث جاد عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أو ترفع صوتها بخطاب ديني متسامح يرى الشر كله في الابتعاد عن الدين، ويدعو المؤمنين للعودة إلى الالتزام الديني ليرفع عنهم البلاء.

هذا ما فعله البابا بنديكت السادس عشر في مقاربته للأزمة المالية: “هذا يثبت أن كل شيء يغتر به الإنسان يذهب وأن ما يبقى هو كلمة الله”، وقد سمعنا جميعا شيوخ الفتنة في بلادنا وهم يطلقون عبارات شبيهة.

علينا أن ننتبه إلى أن السخرية التي يسوقها الإعلام المعادي لا تستهدف الأنظمة والحركات الثورية نفسها، فالتعامل مع هذه الأنظمة والحركات يكون بالوسائل العسكرية والاستخبارية والاقتصادية. المستهدف هو الطاقات الكامنة في الجماهير والتي يمكن أن يؤدي التفافها حول الأنظمة والحركات الثورية إلى الإضرار بمصالح الرأسمالية ومخططاتها.

لقد تم التعامل مع الحركات الثورية مثل “الفهود السود” في أميركا، و”بادر- ماينهوف”، “الألوية الحمراء”، و”الجيش الجمهوري الإيرلندي” في أوروبا بالقمع والمطاردة والسجن.

أما الكوميديا التي تتناول عثرات النظام الرأسمالي وجرائمه فالهدف منها تحويل الطاقات الكامنة في الشعوب التي تتعرض للاستغلال، والتي أنتجت هذه الحركات الثورية، إلى حالة من السخرية والتهكم لمنعها من التحول نحو الثورة.

أما بالنسبة للدول الثورية فيتم استهدافها من خلال تحويل بعض القضايا الاجتماعية أو الاقتصادية إلى مادة للسخرية، فتُستهدف الحالة السياسية في كوبا بالكثير من التهكم، ينطبق الأمر على الحالة الثقافية والعادات الاجتماعية في إيران، والأزمة الاقتصادية في سورية، الهدف في جميع الحالات فصل الجماهير عن الدولة، أو بعبارة أخرى فصل الطاقات الكامنة في الجماهير عن العملية الاقتصادية والسياسية القائمة داخل الدولة. فالرأسمالية التي تلقت أقسى هزائمها العسكرية منذ حرب فيتنام على يد محور المقاومة، تدرك تماماً أن انتصار هذا المحور والتفاف الجماهير حوله يعني نشوء دول مستقلة الإرادة سياسياً واقتصادياً، وهذا الأمر مرفوض من القوى الاستعمارية.

لا نتحدث هنا عن دول خالية من الأخطاء، بل الخطايا أحياناً، لكنهم يسخرون من النظام الرأسمالي بهدف تأييده، ويسخرون منا بهدف تدميرنا.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار