أزمة التعليم وإعادة تدوير الجهل

ليست المرة الأولى التي أتحدث فيها عن أزمة التعليم في المجتمع المصري, وأعلم جيداً أن الموضوع به محاذير كثيرة, خاصة إذا جاء من شخص يعمل في المؤسسة الأكاديمية نفسها, وأحد أعضاء الجماعة العلمية التي نصفها بأنها تعيد تدوير الجهل, لأن فتح الملف سوف ينكأ جراحاً ويكشف عورات مؤسسات ترسم لنفسها صورة ذهنية تقترب من القداسة, فدائماً ما نسمع مصطلح محراب العلم, ومصطلح الحرم الجامعي اللذين يعنيان أنه مكان مقدس.

أي محاولة للاقتراب من المؤسسة الأكاديمية لنقدها ستجد من يخرج ليشهر عليك سيفه ويحاربك ويحاول النيل منك بطرق شتى, وعندما حاولت استطلاع رأي بعض الزملاء الذين ينتمون إلى المؤسسة الأكاديمية ويعانون من الفساد المستشري بداخلها، بأنني سوف أفتح هذا الملف في محاولة للنقد الذاتي لعل ما أكتبه قد يحرك بعض المياه الراكدة في هذه البحيرة الآسنة, فوجدت الخوف في عيونهم على الرغم من حديثهم الدائم في مجالسهم الخاصة الضيقة عن أشكال الفساد المستشري داخل المؤسسة الأكاديمية, وبما أنني قد خضت معارك طويلة مع الفساد داخل هذه المؤسسة فقد قررت فتح الملف مرة أخرى.

وقبل الخوض في موضوع إعادة تدوير الجهل على مستوى التعليم الجامعي وما بعد الجامعي لابد من التأكيد على أن التعليم ما قبل الجامعي تحول هو أيضاً إلى آلة لإعادة تدوير الجهل, فالعملية التعليمية منذ البداية تعتمد على أساليب الحفظ والتلقين من دون أي محاولة للفهم والنقد وإعمال العقل, بل إن الطالب الذي يحاول أن يستخدم هذه الملكات مصيره الاضطهاد والتنكيل والحصول على درجات ضعيفة لا تؤهله لمواصلة مراحل التعليم التالية, وبالطبع هناك العديد من المظاهر السلبية التي يمكن رصدها لإعادة تدوير الجهل في مرحلة التعليم قبل الجامعي, لكنني سأستشهد هنا بمظهر واحد فقط وهو سيادة الدروس الخصوصية على حساب دور المدرسة والمعلم, لدرجة أننا أصبحنا نلوم أنفسنا عندما لا نعطي أبناءنا دروساً خصوصية, في حين كانت الأجيال السابقة تعتبر من يحصل على دروس خصوصية موصوماً اجتماعياً, وأصبحت مهمة المدرس الخصوصي هي تحفيظ وتلقين وحشو رأس الطالب بالمعلومات اللازمة في سبيل حصوله على درجات عالية لدخول الجامعة.

وينتقل الطالب إلى الجامعة وقد اعتاد على هذه الطريقة فيجد الغالبية العظمى من أساتذته يسيرون على النهج نفسه, وأي محاولة من القليل من الأساتذة لتغيير تلك المنظومة ومحاولة إعادة تشكيل عقل الطالب للفهم والنقد والتفكير والابتكار تلقى عدم استجابة من الطالب من ناحية ومن القائمين على إدارة المؤسسة من ناحية أخرى, فدائماً ما يكون الأستاذ مطالباً بنتيجة مقبولة وإذا جاءت نسبة النجاح منخفضة يتم الضغط على الأستاذ لرفع النتيجة وإذا رفض تتدخل الإدارة برفعها ضاربة برأي الأستاذ عرض الحائط عن طريق ثغرة قانونية تسمى بلجنة الممتحنين, وبذلك تترسخ آلية الحفظ والتلقين ويفشل كل من يحاول أن يعمل ضدها لإنتاج علم حقيقي بدلاً من الجهل, والنتيجة المتحصلة من هذه العملية هي خريج تمكن من حفظ الكتب من دون فهم أو نقد أو إعمال للعقل وملكاته المختلفة ويتصدر الأكثر قدرة على الحفظ قائمة الأوائل ويُعين مُعيداً بالجامعة ويتدرج إلى أن يصل لدرجة أستاذ.

وبالطبع كارثة الكوارث تبدأ عندما يكون هذا الأستاذ هو المسؤول عن إعداد طلاب الدراسات العليا الذين سيحصلون على درجات الماجستير والدكتوراه, وهنا حدث ولا حرج عن عشرات ومئات وآلاف الرسائل العلمية في كافة التخصصات التي حصل عليها الطلاب من الجامعات المصرية تحت إشراف أساتذة لا يُعملون عقولهم ولم يتعودوا على تشغيلها بعيداً عن عمليتي الحفظ والتلقين, وإذا كان هناك أستاذ يرغب في تعليم طلابه أساليب مختلفة قائمة على الفهم والنقد وإعمال العقل سيفر منه الطلاب وإذا شارك في مناقشة رسالة علمية ورفض منح الطالب الدرجة لعدم استحقاقه يجد زملاءه المشرفين يضغطون عليه ويقولون له إن الدرجة تمنح لنا كإشراف وليس للطالب, وإذا رفض يتم استبعاده ولا يأتون به لمناقشة طلابهم مرة أخرى.

هؤلاء الأساتذة هم المسيطرون على المشهد الأكاديمي برمته, وبالطبع تتم معاقبة المتميزين وكل من يثبت أنه قد حاول استخدام عقله بعيداً عن الحفظ والتلقين, هذا إلى جانب تدخل العلاقات الشخصية والمحسوبية والهدايا والرشى أحياناً من أجل الحصول على الدرجات العلمية, ولا يمكن إغفال السرقات العلمية التي لا تعد ولا تحصى وفي التخصصات كافة, والغريب حقاً داخل المؤسسة الأكاديمية أن آخر ما تهتم به الجماعة العلمية هو العلم ذاته, فغالبية الحوارات والنقاشات التي تدور داخل أسوار الجامعة بين أعضاء هيئة التدريس أبعد ما تكون عن العلم, لذلك فإن ما يتم داخل هذه المنظومة هو إعادة تدوير للجهل, وإذا كانت هناك نيات حقيقية للإصلاح وإعادة بناء المجتمع وتحقيق نهضة فعلية، فعلينا أن نقبل النقد الذاتي ونبدأ بتصحيح مسار هذه المنظومة برمتها سواء في مرحلة التعليم قبل الجامعي أو الجامعي أو ما بعد الجامعي.. اللهم بلغت اللهم فاشهد.

كاتب من مصر

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار