أميركا القديمة.. أميركا الجديدة

في تطور اعتبرته الكثير من الأوساط السياسية الدولية إيجابياً، أعلنت الإدارة الأميركية عن موافقتها على عودة إيران إلى محادثات الاتفاق النووي، ولم تقرن هذه الموافقة بشروط إضافية تتعلق بموضوع الصواريخ بعيدة المدى.

تزامن هذا الإعلان مع النداء الذي وجهه الرئيس الأميركي إلى الدول الأوروبية خلال مؤتمر ميونيخ، ودعاها للعمل مع الولايات المتحدة لوقف التقدم الإيراني في المجال النووي، ونزع فتيل التصعيد في المنطقة.

ما غاب عن وسائل الإعلام الغربية.. والعربية الدائرة في فلكه، أن إيران لم تغادر الاتفاق النووي، وأنها وضعت مجموعة من الشروط للعودة إليه؛ في مقدمتها رفع العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والعودة إلى الاتفاق بصيغته الأصلية المودعة لدى الأمم المتحدة.

يبدو أن الولايات المتحدة قد اتخذت قراراً بالرضوخ للشروط الإيرانية، فقد أعلنت إدارة بايدن أنها بصدد العودة إلى الاتفاق الأصلي، وجعله أرضية لاتفاقات مستقبلية حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، بما فيها أمن الخليج والصواريخ الإيرانية بعيدة المدى؛ ثم عادت الإدارة الأميركية لإبلاغ مجلس الأمن بسحبها لمشروع إعادة العقوبات الأممية على إيران في استجابة جزئية للشرط الإيراني.

تبدو الأرضية مُهيأة للقاء إيراني- أميركي وشيك ينتهي بإعلان الولايات المتحدة رفع العقوبات عن إيران، مقابل عودة إيران إلى معدلات تخصيب اليورانيوم المنصوص عليها في الاتفاق النووي، والسماح لمفتشي وكالة الطاقة الدولية باستئناف عملهم داخل المنشآت النووية الإيرانية.

لكن ساحة المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران لا تقتصر على الملف النووي، فإيران تلعب اليوم دوراً فاعلاً في جميع الملفات الإقليمية المهمة؛ قد يبدو للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة تتراجع أمام إيران في جميع القضايا الإقليمية؛ فالتراجع عن شرط شمول الصواريخ الإيرانية بعيدة المدى في الاتفاق النووي يعد صفعة قوية للمصالح الإسرائيلية والسعودية، وكذلك الأمر مع قرار إيقاف الدعم الأميركي للتحالف العربي الذي تقوده السعودية ضد اليمن، ورفع اسم «أنصار الله» من قائمة التنظيمات الإرهابية.

وفي سورية أعلنت الولايات المتحدة توقفها عن حماية آبار النفط المسروقة على يد ميليشيات «قسد» الإرهابية، إضافة لانسحاب المليشيات المدعومة من الولايات المتحدة من بعض المناطق التي تحتلها في شمال شرق سورية.

كل هذه التطورات تطرح سؤالاً مهماً: هل غيّرت الولايات المتحدة سياستها في المنطقة فعلاً، أم إن ما يجري ليس سوى مناورة سياسية تهدف من ورائها إلى تحقيق مكاسب جديدة؟

يذهب نمط التفكير السياسي العربي السائد، إلى البحث عن مؤامرة ما، في مكان ما؛ قد تتضمن صفقة تحرير الأسرى السوريين، أو الانتخابات الفلسطينية أو السورية، أو تشكيل الحكومة اللبنانية، أو تقدم أنصار الله في مأرب.

تشجع الدوائر الغربية هذا النمط من التفكير لأنه يشكك بالإنجازات الوطنية، ويفرغ الحقائق على الأرض من مضمونها.

تصبح الرؤية شديدة الوضوح إذا تمسكنا بحقيقتين لا يجوز تجاوزهما الأولى؛ أن الولايات المتحدة الأميركية هي إمبراطورية الشر المطلق في عالمنا. والثانية؛ أن السياسة الأميركية ثابتة وقائمة على بنية الدولة الإمبريالية والعدوان والنهب، وأي تغيير نراه ليس سوى تكتيك تفرضه الظروف الاقتصادية أو التغيرات في ساحات المواجهة، من دون أي تغيير حقيقي في سياسة الدولة أو أهدافها؛ بناء على هاتين الحقيقتين نستطيع فهم ما يسمى التغييرات في السياسة الأميركية.

من الناحية الاقتصادية؛ يعاني العالم منذ بدء جائحة كورونا من أوضاع اقتصادية كارثية، وخسائر غير مسبوقة، وبما أن الاقتصاد الأميركي هو الأكبر عالمياً، فهو الأكثر تأثراً بهذه الخسائر، وجاء اكتشاف اللقاح والبدء بعمليات التطعيم في معظم دول العالم، ليمنح جرعة من الأمل ببدء تعافي الاقتصاد. هذا التعافي يحتاج إلى تسهيل عمليات نقل البضائع بين الأسواق المختلفة، وبالتالي تبريد بؤر التوتر العالمية. وبما أن الولايات المتحدة هي العامل المشترك في جميع هذه البؤر، فإن مصالحها تقتضي تعديل تكتيكها، واستعمال الجزرة بدل العصا.

في الوضع الميداني؛ تدرك الرأسمالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة أن سياسة العنف وإثارة الصراعات المحلية قد وصلت إلى طريق مسدود، وأن خسائرها أصبحت تتفوق على المكاسب المرجوة، خاصة بعد عودة روسيا والصين كلاعبين أساسيين على مسرح الأحداث العالمي، وفشل التحالف الذي تقوده السعودية ضد اليمن في تحقيق أي إنجاز سوى قتل اليمنيين، وانتقال الجيش اليمني وأنصار الله من حالة الصمود والدفاع إلى حالة الهجوم وتحقيق الانتصارات.

في سورية، أصبح انتصار الدولة حقيقة لا يمكن تجاوزها؛ ويدرك الجميع أن تصفية البؤر الإرهابية المتبقية في إدلب وشمال شرق سورية مسألة وقت، والسبب التزام الدولة السورية بتقليل الخسائر بين المدنيين، وما تفرضه حسابات الحلفاء ومصالحهم، لكن القدرة العسكرية موجودة وقادرة على حسم المعركة في أي لحظة.

لا شك أن الولايات المتحدة تحتفظ ببعض الأوراق التي تدعم موقفها، كالحصار على سورية وإيران، وتعطيل تشكيل الحكومة في لبنان ودفعه إلى شفير الهاوية الاقتصادية، والوضع الإنساني الكارثي في اليمن.. ولن تتردد إدارة بايدن في استعمال هذه الأوراق بقسوة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية، لكن خصوم أميركا في العالم يمتلكون ميزة نادرة، وهي معرفتهم بحاجة أميركا للوصول إلى أكبر قدر من التسويات لتخفيف التوتر العالمي، وهو ما يمنحهم قوة إضافية لأن صمودهم وتمسكهم بالثوابت الوطنية سيدفع الولايات المتحدة إلى تقديم المزيد من التنازلات. هذا الصمود لا يشمل ساحات المعارك، فحسب، ولكنه يشمل الصمود السياسي والاقتصادي.

نحن إذا في الهزيع الأخير من المعركة، والمطلوب هو رص صفوف القوى والدول المعادية للهيمنة الرأسمالية، والبحث عن حلول سريعة وآنية تمكننا من تجاوز الأشهر القادمة، لم يعد العالم يحتمل المزيد من الأزمات، والأزمة في منطقتنا ذاهبة نحو الحل سياسياً أو عسكرياً، وعلينا أن نكون مستعدين لكلا الحلّين.

كاتب من الأردن

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار