هنا لندن.. هنا دمشق
عماد خالد الحطبة :
في زمن مضى، اعتدنا أثناء طفولتنا أن نعتبر صوت المذيع القادم عبر راديو الوالد قائلاً: «هنا لندن» إشارة لنا بالتزام الصمت التام، ومراقبة الأهل وهم يتابعون نشرة الأخبار من الإذاعة البريطانية، مبدين مشاعر تتراوح بين الغضب والفرح حسب ما تأتي به الأخبار.
تذكرت هذه الأحداث عندما سألني أحد أبنائي عن سبب طلبي المتكرر له ولإخوته التزام الصمت عند متابعتي لنشرة الأخبار، على إحدى القنوات السورية، رغم أنني أستمع إلى نشرة الأخبار أكثر من مرة يومياً، نظرت إليه بغضب، كما كان والدي يفعل معي، ولم أقدم جواباً!
بقي السؤال يطاردني، لماذا كان والدي يثق بأخبار إذاعة لندن، رغم اتهامه المتكرر لبريطانيا بأنها سبب كل البلاء الذي حل ببلادنا.
عدت إلى والدي أسأله عن السبب فأخبرني أنهم اكتسبوا تلك العادة بعد حرب حزيران 1967، قبل الحرب كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة تجمعهم، حتى عندما كانت ممنوعة في بعض الأقطار العربية، أيام الحرب كانوا يتحلقون حول الراديو لسماع أخبار الانتصارات، لكن غبار المعركة انجلى عن هزيمة قاسية على جميع الجبهات العربية؛ منذ ذلك الحين هجروا الإذاعات العربية، وأصبحت إذاعة لندن ملجأهم لسماع أخبار العالم.
قبل ما يسمى «الربيع العربي» وفي بدايات هذا الربيع المشؤوم، كانت قناة «الجزيرة» القطرية تكاد تحتكر متابعي الأخبار العرب، لكن ما أصاب الأمة من دمار، مع انكشاف حقيقة هذا “الربيع”، جعل الكثيرين يلجؤون إلى محطات أخرى لمعرفة حقيقة ما يحدث.
هذا اللجوء لمحطات متنوعة، وعلى مدى أكثر من عشر سنوات، جعلنا نتعرف على وطننا العربي من جديد، حفظنا جغرافيته وطرقه، وجباله وسهوله وسواحله، تنقلنا على خطوط الجبهات مع الجنود تقدماً وتراجعاً، ووضعنا الخطط العسكرية وخرجنا بتحليلاتنا الساذجة عن سير المعارك.
اليوم يعرف المواطن في الوطن العربي عن أزمة الغاز في اللاذقية، وأزمة الخبز في أسيوط، ونقص الدواء في صنعاء، وأزمة الكهرباء في بيروت.
لم يحدث ذلك لأن وسائل التواصل الاجتماعي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، كما يحب رواد العولمة وصف عالمنا، لكن المواطن العربي تعلم درس «الربيع العربي» من أن ما يجري في أي بقعة من الوطن العربي ينعكس على كل بقاعه، وأن القوى الاستعمارية تنظر إلينا كوطن واحد، حتى لو كنا نرى أنفسنا متفرقين.
لكن الحرب لم تنتهِ، وما زال العدو يحشد إمكاناته العسكرية والاقتصادية والإعلامية، ليغير نتيجة الحرب، التي أسفرت حتى اليوم عن هزيمة مخططاته، وتبدو الأمور مرشحة للتصاعد في ظل الانتصارات الميدانية التي يحققها محور المقاومة من صنعاء وحتى حلب. الحرب الإعلامية القادمة ستكون اقتصادية- سياسية.
لقد أدت سياسة العقوبات الظالمة والحصار إلى أزمات اقتصادية ملموسة الأثر في دول محور المقاومة. لكن الإعلام الموجه يبذل كل جهده لتصوير أن هذه الأزمات ناجمة عن عوامل داخلية؛ الفساد وسوء الإدارة، مع تغييب كامل للعامل الخارجي ودوره.
نعلم تماماً أننا لا نعيش في المدينة الفاضلة، ولكل حرب أغنياؤها، والمستفيدون منها، لكن العامل الخارجي يبقى العامل الأساسي والأهم في كل الأزمات التي تجتاح وطننا من أقصاه إلى أقصاه، وأن ما يرتكبه العدو من جرائم ضد اقتصادنا هي الجرائم الحقيقية ضد الإنسانية.
أما في المجال السياسي؛ تستعد سورية للانتخابات الرئاسية، ويعيش لبنان من دون حكومة وسط محاولات استعمارية لإملاء شكل الحكومة وبرنامجها، ويتجه العراق نحو انتخابات نيابية، يأمل معسكر العدوان أن يدفع نتائجها لحساب المساومين والمتآمرين بدلاً من المقاومين.
أكثر ما يقلق العدو من ديمومة العملية السياسية هو ما تشير إليه من توجه نحو الاستقرار والعودة إلى الحياة الطبيعية في البلدان المستهدفة؛ لذلك يسخّر كل وسائل إعلامه، وأسلحته الإلكترونية لإثارة الشائعات وتلفيق التقارير، ومحاولة التأثير على سير العملية الانتخابية والتشكيك بنتائجها، كما فعل في فنزويلا وبوليفيا.
في مواجهة هذا العدو لا بد وأن نزداد تماسكاً والتفافاً حول ثوابتنا ومؤسساتنا، وألا نلجأ إلى «هنا لندن» بل ليكن شعارنا في المعركة القادمة «هنا صنعاء».. «هنا بيروت».. «هنا بغداد».. «هنا دمشق».
كاتب من الأردن