«تشرين» تحتفي بشاعر العرب لسنة 2024.. الشاعر السوري صقر عليشي في حوار مفتوح مع محرري الدائرة الثقافية في صحيفة «تشرين»

“ولدتُ لعائلةٍ متواضعةٍ
لا تمتُّ لغير السّما بالنسبْ
والدي في مناكبها راح يسعى
وكان على الأمّ جمعُ الحطبْ
أخذتُ المواشي الى النبعِ
ربّتّ ظهر الحمارْ
تمدّدتُ فوق المروج بكامل روحي
وكان يرافقني غالباً
إخوتي في الحليبِ
خرافي الصّغارْ”
من ذلك الفناء الخلفي للقصيدة في (عين الكروم) في محافظة حماة قدم صقر عليشي إلى مناخات الشعر، مفعماً بالأعالي، تلك المفردة – الأعالي – التي ستمسي من ملامح القصيدة عند عليشي، ومن هنا نتفهم تحليل زوجته الروسية، عندما كانت تتأمل معنى الكنية – عليشي، وتقول هل تعني “أعلى شي؟!!”.. أعلى شي، ذلك ما لمسته وأنا أتهيّبُ ذات زيارة إلى (عين الكروم) مع صقر صاعدين القرية، وكنت حينها أتخيل منابع الجمال الشعري التي كانت تجري منه سواقي القصيدة عند صقر عليشي، وإذا كان صقر تفاجأ باختيار منظمة (الأليسكو) باختياره شاعر العرب لسنة 2024، غير أن الزملاء في الدائرة الثقافية في صحيفة «تشرين»، لم يكن الأمر مفاجئاً لهم، وهو الأمر الذي يستحق الشاعر عليه الاحتفاء، وكان هذا الحوار المفتوح مع الشاعر صقر عليشي، والزملاء: علي الرّاعي، زيد قطريب، حنان علي، بديع صنيج، ميسون شباني، جواد ديوب، ولبنى شاكر.
إذاً بناءً على ترشيحات وزارات الثقافات في الوطن العربي، أقرت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليسكو)؛ ترشيح وزارة الثقافة السورية للشاعر صقر عليشي شاعر هذه الدورة عن الشعراء الأحياء، والشاعر الليبي الراحل الشيخ المجاهد سلمان الباروني عن الشعراء المتوفين، ودعت المنظمة الدول العربية إلى الاحتفال باليوم العربي للشعر وبالشاعرين المحتفى بهما طوال ٢٠٢٤.. كما طلبت المنظمة بقرارها المذكور أعلاه الدول العربية الاحتفال بالشاعرين الذين سيتم تكريمهما خلال الدورة العاشرة لليوم العربي للشعر.

شاعر العرب
ونسأله: كيف كان وقع هذا الاختيار عليك؟ ليُجيب: لم يكن عندي أي فكرة عن (شاعر العرب)، غير أن منظمة (الأليسكو) تحتفي كلّ سنة بشاعرٍ عربي، وهذه هي المرة الثالثة التي يتم فيها تكريم شاعر عربي من الأحياء، فقد احتفت بالدورة الأولى بالشاعر التونسي آدم فتحي، وفي الدورة الثانية بالشاعرة الكويتية سعاد الصباح، وكان مفاجأة لي أنني كنتُ المكرم بالدورة الثالثة، حيث بدأ هذا الطقس الاحتفالي خلال احتفال المنظمة بيوم الشعر العالمي، إذ يتم الاختيار بناءً على ترشيحات وزارات الثقافة في العالم العربي.

الشاعر الحقيقي هو شاعر حداثوي بالضرورة والمتنبي لايزال حداثوياً

وفي العودة للبواكير يقول: بدأت كشاعرٍ كلاسيكي، ككلّ أبناء الريف حينها، ولم نكن قد سمعنا بشكلٍ شعري يُدعى قصيدة النثر، ومع دخولنا المدارس والجامعات صرنا نسمع برموز قصديتي التفعيلة والنثر من نازك الملائكة إلى أدونيس، وقد مضى على التجربة اليوم ما يزيد على أربعين سنة، فقد نشرت أول قصيدة في حياتي في مجلة «الثقافة» لصاحبها الأديب الراحل مدحت عكاش، وكنت أرسلتها بالبريد حيث كان أبي “ينزل” إلى حماة كل أسبوع، وكان يأتينا بأعدادها لأفاجأ بنشر القصيدة على الصفحة الأولى من المجلة مع مديحٍ هائل كان يساوي حينها بالنسبة لي جوائز العالم كلها، وكان قبل ذلك برنامج الإعلامي الشهير أحمد سليمان الحمد (أقلام واعدة)، وكنت أتابعه أسبوعياً، كنت حينها في الصف التاسع، وقد تحدث الأحمد عن القصيدة بجملٍ لاتزال إلى اليوم ترن في ذهني، ذلك الحديث الذي سمعه كل من كان حيّاً في (عين الكروم) حينها، ومن يومها عرفت في كلِّ المنطقة شاعراً، في منطقة تنظر إلى الشعر وإلى الشاعر بالكثير من المهابة والاحترام.

التجربة العليشية
وفي حديثه عن تجربته الشعرية أوضح (عليشي) أن البدايات لم تخلُ من وطأة التأثر بعدد من كبار الشعراء: كـ(المتنبي، وبدوي الجبل، ونديم محمد، ونزار قباني، ومحمود درويش) ويُضيف مازحاً: “لم يسلم أحد من شرّي”، ثم جاءت المحاولات الأولى على هيئة مخطوطات شعرية، ويذكر (عليشي) أن أول من أعلنه شاعراً هو الإعلامي الشهير الشاعر (أحمد سليمان الأحمد) عبر برنامجه الإذاعي (أقلام واعدة) (1971). وكذلك فعل المربي والشاعر الراحل (مدحت عكاش) الذي تبنى نشر أولى قصائده في مجلة الثقافة (1976)، ثم تتالت الأحداث وتقدمت التجربة، وتكفل الاجتهاد والوقت بصقل الموهبة وتطور النمط، إلى أن أصدر مؤلفه الشعري الأول: بعينيكِ ضعتُ، (1979)، الذي لفت انتباه القراء والنقاد على حد سواء.
تُمثلُّ “التجربة العليشية” إحدى التجارب الشعرية التي أنقذت قصيدة التفعيلة من مطباتها الكثيرة، منها الوقوع في النظم والغنائية والتكرار مع المضمون الأجوف.. ورغم أن الشاعر لا يوافقنا على مثل هذا التحليل، باعتباره ينظر إلى موهبة الشاعر وثقافته وميوله، ومن ثم فالمحنة المشار إليها، ليس في الشكل الشعري، وإنما في الشاعر الذي يُخطئ في ميله لشكل شعري دون آخر، ويضرب لذلك مثلين: الماغوط الذي لم يكن يطيق الشعر العمودي، ومحمود درويش الذي قفل راجعاً من مناخات قصيدة النثر بعد أول مجموعة شعرية له وكانت الـ«مزامير» في هذا الشكل، والتي لم يُسجلها في ديوانه الشعري.. ومن ثمّ فإنّ قصيدة التفعيلة لم تكن بوابة عبور لقصيدة النثر وحسب، بل لايزال الكثيرون اليوم ممن استمروا في الكتابة في هذا الشكل الشعري.. بل هنا ما يُشبه الردّة لكتابة العمودي بشكلٍ رائع وهذا ما لمسناه في العراق الشقيق، وكان الظن إنّ هذا الشكل الشعري قد استنفد كلّ جمالياته.. من هنا أنا مع الشاعر أن يكتب بالشكل الذي يميل ويرتاحُ إليه، شرط ان يُبدع به. ويُضيف: من جهتي أنا متصالح مع كلِّ الأشكال الشعرية، وعندما يأتي الإبداع تأتي القصيدة.
“في أعالي الجبالْ
لأرى سهل نفسي
وليلة أمسِ
مشيتُ على السفحِ
كان الهلالْ
يضيء رؤوس الذرا
ويضيء السكونَ ونفسي
لمستُ الصخور التي نحتتها الرياحُ
لمستُ جفاء الخشبْ
لمست المعادن أجمعها
لمستُ الحديدَ وأخلاقهُ
والصفاتِ العُلا للذهب
لمست الرهافة والعمقَ
في مخملٍ ودمقسِ
ألا كلّ ما لمسته يدي
لم يكن في صلابة نفسي
وفي الحديث عن تعدد أشكال القصيدة ومُسمياتها كالومضة والأقصودة والهايكو، ذهب عليشي إلى أن الحداثة تستوعب كلَّ شيء، فالهايكو مثلاً قصيدة مكتوبة وفق شكلٍ ونظامٍ ياباني موزون منذ مئات السنين، ولا يُمكن الخروج عنه، لكن ما يُكتب عندنا برأيه هي القصيدة القصيرة الومضة، وهي موجودة منذ زمنٍ بعيد في الشعر القديم على شكل أبياتٍ منفردة، ومن ثم فإنّ كُل ما يُكتب اليوم له جذر، إنما بعض الشباب والمواهب يحاولون ترسيخ أشكالٍ مُحددة من الكتابة.

الموهبة أولاً
وهنا أوضح الشاعر: “الأمر يعود إلى الموهبة والإضافة والتجديد عند الكاتب، ربما تُكتب مئات دواوين الهايكو في سورية، لكنها لا تُساوي شيئاً وربما تُدمّر أصحابها، وعلى سبيل المثال أيضاً هناك الكثير ممن سبقوا محمد الماغوط في كتابة قصيدة النثر، لكن لم يبرز أحدٌ منهم كما فعل، ولم يستطع أحدهم كتابة قصيدة نثر مُقنعة كما استطاع.. إذاً وجود الموهبة يعني الحضور، بعض الشعراء اكتُشفوا في أوروبا بعد مئات السنين على رحيلهم مثل الشاعر البرتغالي الكبير فرناندو بيسوا، الذي كان يكتب بثلاثة أسماء، بمعنى أن الموهبة تُوجّه وتُقرر وليس الأمر اختيارياً عند الكاتب، عدا أن الإمكانيات تتباين وتختلف من مُبدعٍ إلى آخر، فمن يكتب في الرواية لا يُشترط أن يكتب القصة وهكذا، والبعض ينجح في أنواع ويفشل في أخرى”. وأضاف: أيضاً “كتبتُ الومضة في ديواني الأخير “نرجس بري”، لكن لا أعتبر أنها الشكل الأخير لكتابة القصيدة، إنما تأتي من باب التنويع، ولو كتب الجميع بنفس الشكل والطريقة لبدا المشهد مملاً بل مُقرفاً أيضاً”.

لا أجد نفسي إلا وأنا أكتب عن ضيعتي (عين الكروم)

استعدنا في الحوار مع عليشي ما قاله أدونيس في واحدٍ من لقاءاته، عن أن الناس أحبّوا من شعر محمود درويش ونزار قباني، ما هو أقرب للمُشترك والعام، والأقل مستوى مما في رصيدهما، وكانت له وجهة نظر أخرى، مُؤكداً أنه رغم احترامه ومحبته لأدونيس لكنه لا يُوافقه الرأي، وقال: “الناس أحبوا عند درويش وقباني الأجمل مما كتباه، وأنا واحدٌ من هؤلاء، يبدو أن أدونيس يرى في جماهيرية القصيدة دليلاً على ضعفها ورداءتها، لكنني لا أرى هذا، وإن كان في الوسط شعراء شعبويون، قدموا شعراً رديئاً أحبه الناس، غير أنهم لم يُحبوا الرديء من شعر نزار، تالياً فإن جماهيريته ليست ناتجة عن جهل، بل هي جماهيرية متذوقين ومحبين للحياة، كذلك فالناس لم يُحبوا شعر محمود درويش لأنه كتب عن القضية، كثيرون غيره كتبوا عنها، لكن لم يحبهم أحد ولم يحفظ شعرهم أحد.. إذاً فجماهيريته حقيقية”. وبيّن عليشي أنه كان جزءاً من مجموعةٍ أعدّت كتاباً عن نزار قباني، وتواصل مع أدونيس الذي أرسل إليه كلمة بخط يده، يُمجّد فيها نزار قباني، حتى إنه قال في حوارٍ له منذ فترة أننا أخطأنا بحق نزار.

المتنبي الحداثوي
مرة قلت إن أي شاعر حقيقي هو شاعر حداثوي بالضرورة؟ يُجيب الشاعر: أنا أعتبر المتنبي هو شاعر حداثوي، فعندما يقول: “إن في الخمر معنىً ليس في العنبِ”، مجرد أن تأتي بشيءٍ جديد هو حداثة، الحداثة ليست الكتابة عن القضايا التي تُسمى كبرى.. فبودلير أهم قصائده قصيدته عن “الجيفة”، وفيها شعر أكثر من قصائد تحمل بداخلها ألف طن صُراخ، الحداثة أن يكون عندك إضافة جدية بغض النظر عن شكل تلك الإضافة، وينبغي أن تكون لديك موهبة حتى تستطيع أن تصل إلى الحداثة، فالحداثة ليست وصفة طبية، وعندما يتعب المرء على نفسه ولديه موهبة ويجتهد ويقدم إنتاجاً فيه إضافة يكون حداثوياً، والشعر الحديث بعصره يبقى حديثاً بكلِّ العصور، فالحداثة نجدها عند« أبو نواس، والمتنبي والمعري…»، أما التقليدي والفارغ فهو موجود منذ تلك الأيام حتى الآن، وفي العصر الحديث ما أكثر الشعر الفارغ.
الحداثة والعصرية
تحدثنا أن الشعر وحداثته لا علاقة له بالزمن، وفرَّقت بين الحداثة والعصرية، من أولئك الشعراء القدماء كالمعري والمتنبي حتى الآن، ماذا ورثت عنهم؟ يُجيب: ورثت كثيراً من الشريف الرضي، من الملك الضليل، من عنترة.. في شبابي كنت متعلقاً بهم وقرأت شعرهم، كل ما أقرأ أو ألتهم شعراً جميلاً، أتأثر.. وبهم كنت أنفرد في قراءاتي الأولى في الضيعة.

في الإبداع ينبغي عدم وجود نسختين متماثلتين

هل هي وراثة لغتهم، أم تراكيبهم، بأي معنى ورثتهم؟ يُجيب: كل تجربة تستلهمها وتقرؤها وتتمثلها، تزيدك قوةً ومرونة ودربة على الكتابة.. من يقرأ مثلاً محمود درويش، فعلى كتابته أن تتأثر، وعليه أن يكتب بشكلٍ مختلف كما كان يكتبه قبل أن يقرأ درويش، ليس بمعنى الأسلوب وإنما بمعنى التباس الأثر.. نزار قباني أيضاً زوَّدنا بطاقةٍ، استلهمناه لكن كتبنا بشكلٍ مغاير عما كتبه نزار.. فعندما تتمثل الموهبة بشكلٍ سليم، وليس أن تكتب نسخاً، فالنسخ لا أبشع منها، ففي الإبداع ينبغي عدم وجود نسختين متماثلتين.
هل ذاك أوصلك لـ”عناقيد الحكمة”؟.. لا أدري، أوصلتني القراءة والحياة والتجربة، تضافروا وتجمعوا فخرجت بهذا الشكل، لكنني لم أكن مشدوداً في يوم من الأيام للموضوعات الكبيرة، فلدي حساسية مما رأيته منها، وهذا صنع عندي ردة فعل، لكن عندما تقرأ قصيدة «الإبرة» ترى فيها إنسانية وانتقادات، وهناك قصيدة «البصلة»، التي انشده الناس بها، كما أنّه ليست كلّ قصيدة ناجحة هي قصيدة الصورة، هناك قصائد سردية ليست فيها صورة، وتكون هناك حبكة وخاتمة مفاجئة.. هناك أكثر من شكل لكتابة القصيدة، وليس الصورة هي معيار نجاح القصيدة، فمثلاً شعر بدوي الجبل، إن قرأته مترجماً لن تكون له أهمية، فجمالياته نابعة من اللفظة والموسيقا والتركيب، وأحياناً من معنى جديد.
“طرتُ سريعاً..
طرتُ سريعاً جداً..

أسرعُ من ريحٍ عاتية،
ومخرتُ عبابَ سماواتٍ
عالية..
لم ينج علوٌ فيها مني
ورأيت جبالاً، حانية الهامة،
تمرق من تحتي
نمتُ،
وكان الغيمُ يسيرُ وئيداً
أدنى من تختي”..
سؤال: من يقرأ قصائدك بالمجمل يشعرُ من فرط رقتها كما لو أنه يسكن في قلب غيمةٍ أو يسبحُ فوق غيمة.. هل سبب ذلك هو تأثيرات البيئة الأولى التي ولدت وتربيت فيها خاصة أنك كتبت بوجدان واضح عن ضيعتك؟ نعم هي تأثيرات البيئة، ومردّ ذلك يكاد يقترب من سرٍّ عصيّ على التفسير، مثل انطباعات الطفل التي ترسخت في قلبه لدرجة أنها لا تترك أي مساحة لتأثيرات جديدة كي تتسلل إلى وعيه وذاكرته إلا من خلال بعض شقوق ضيقة.. ونسأله: إذاً هل هو الحنين إلى رحم الطفولة الأولى أم هو موقفٌ واعٍ ضد المدينة؟ يرد: فعلاً لا أجد نفسي إلا وأنا أكتب عن ضيعتي (عين الكروم)، رغم كلّ ما كتبته عنها وعن كلّ تفاصيلها من شجر وكروم وينابيع، لا أعرف السبب.
عتبة بيتي
وكأنكَ – في معظم ما كتبت – لست “شاعرَ قضايا كبرى” (طبعاً بالنسبة لي بعض قصائدك تعادل في الوطنية قصائد عظيمة)، لكن يبدو لقارئ لا يعرفك كما لو أنه ليست لدى صقر عليشي قضايا عربية وقومية أو حتى لغوية ليدافع عنها مثلما فعل شعراء مثل: محمود درويش وسميح القاسم والجواهري ونزار قباني وغيرهم.. لماذا؟ يُجيب: لدي حساسية تجاه هذه الموضوعات – كما أسلفت – خاصةً حين أقرأ أطنان من هذه الأشعار، أو القصائد التي كتبت مثلاً عن الشهيد محمد الدرة.. ولا نجد أي قصيدة من تلك الأطنان قد رسخت في ذاكرتنا أو وجداننا!.. إذاً أين دورك كشاعر تجاه تلك القضايا؟! ألم يكن بإمكانك مثلاً أن تكتب قصيدة “وطنية” رقيقة كما تفضل أن تقول.. عن الشهيد محمد الدرة طالما أنك ذكرته.. قصيدة تعلق في أذهاننا وتؤثر في أرواحنا؟ جواب الشاعر: نعم كان ممكناً، وقد كتبت لكن من دون أن يكون محمد الدرة في الواجهة.. لكن خذ مثلاً (قصيدة الإبرة).. كتبتها رداً على أحد الأصدقاء في جلسة نتحدث فيها عن تلك القضايا.. برأيي حين تكتب قصيدة رديئة عن قضية كبرى فأنت تسيء بذلك للشعر ولنفسك وللقضية الكبرى ذاتها.
“تهمني المسائلُ الصغيرة،
أكثر من مسائل الفناء والوجود..
أحبّ أن أذوقَ غامضَ التفاح..
أكثر مما لو أذوقُ
ثمر الخلود”..
أجد أنك تكتب العديد من القصائد كتحيات للأصدقاء كما لو أن الصداقة هي التي تعنيك أكثر من أي شيءٍ آخر.. كما لو أن الصداقة هي قضيتك الكبرى؟ فهل يحضر الشخص في كلتا الحالتين بوصفه عالم القصيدة أم بوصفه عتبة من عتباتها؟

أمقت المباشرة وأكثر ما أكرهه الشعر الخطابي.. كما أميل إلى تبني الشعر المفهوم والابتعاد عن الغموض

جواب الشاعر: هي فعلاً تحيات لهم، لأن في داخلي مودة ومحبة تجاههم، وهو نوعٌ من ردِّ الجميل على ما تركوه لنا من جمال.. هم تجارب مكتملة ناضجة عظيمة، ونحن بدأنا على أكتاف تجاربهم حتى بنواقصها مثلاً.. وإذا كان لتجربتي أن تأخذ هذا الحيز من التأثير فهو بفضل تلك التجارب الشعرية، سواء فيما يخصّ الشكل الشعري أو المضامين.. لأنني ابتعدت عما رأيته غير جميل فيما كتبه نزار قباني مثلاً من قصائد فيها مباشَرة أو ما وجدته غير جميل برأيي مما كتبه الماغوط أو محمود درويش وغيرهما.. وقد لا تكون القصيدة مكتوبة للشخص، وإنما قد يكون أحبّها، فأهديها إليه، وقد تكون القصيدة بكاملها مكتوبة من أجل هذا الشخص.. والشاعر يكتب دائماً لآخر، وإن كان ليس لشخص بعينه.. دائماً أفكّر بالقصيدة وحسب، وأكتب وأنا بين الناس، على سبيل المثال ديوان شعر بالكامل كتبته خلال زياراتي إلى مقهى الروضة بدمشق، وهو ديوان (قليلٌ من الوجد)..
“ليس قليلاً ما سرتُ على الطرقاتِ،
وليس قليلا ما جاب فضائي
من غيمٍ وحنينْ
بعصير الضوء ألوّنُ أحياناً
وألون أحياناً
بالعتمةِ والطينْ
لا.. ليس يدانيني صيادٌ
في قنص الومضةِ
من أعلى علّيينْ
لكنْ لن أكتبَ
أجملَ ما في الشعرِ
سأترك شيئا للشعراء الآتينْ”
وحول ما يحكى عن اختناقات تعاني منها قصيدة التفعيلة، وتورطها في الغنائية والوزن على حساب الصورة المدهشة، أكدَّ الشاعر صقر عليشي أنه لا أزمة في القصيدة، فهناك شعر غث وسمين.. وأعطى عليشي مشروعية لألوان الكتابة كلها، شرط أن تحقق صفة الشعرية، لأن القصيدة الموصوفة بالجدّة هي التي ستقاوم الزمن وتستمر، أما ما عداها فستخلد للنسيان.. وقال عليشي: المتنبي شاعر حديث، ومفهوم الحداثة غير مرتبط بالزمن، فقصائد أبي الطيب مازالت حاضرة في الذاكرة العربية، كأنها عصيّة على الزمن، وهذا دليل على أصالة موهبته وحداثة نصوصه في كلِّ العصور.
أما بالنسبة للأوزان الخليلية، وإن كانت ستتعرض للتغير الجذري باعتبار أنها صحراوية، أزاحت في مرحلة ما الأوزان السورية التي كانت سائدة ؟ قال عليشي: إن الأوزان قريبة من بعضها وليست متناقضة، كما هي اللغة الآرامية التي أخذت منها العربية الكثير من المفردات، فاللغات والأوزان يمكن أن تتطور حسب العصر وهذا شأن طبيعي.

الحكاية الشعرية
أنت ترسم حكاية وقصة في معظم قصائدك.. كيف تلامس دواخل الإنسان وتعزف على هذا الوتر؟ هل هناك مقومات ومعيار معين لذلك لديك؟ نعم هذا صحيح هي قصة وحكاية أرويها شعرياً.. غير أنّ الحقيقة أنني لا أفكر بهذا الموضوع بدليل أن ديواني الأخير كان نثرياً.
إذاً: هل نستطيع القول إنّ الحكائية صارت ملمحاً في النص الشعري المعاصر؟ هي نوع، والقصيدة ليست شكلاً واحداً وهي دائماً ملمح، فهناك قصيدة عبارة عن حكاية وقصة، لكنها مكتوبة بشكلٍ آخر وبأسلوبٍ مختلف عن القصة، والسرد فيها تضاد، وفيها لفتات ومفاجآت.. وأنا أحبُّ هذا النوع، لكن لا أنزع إليه فقط.. هل هناك من لا يتمنى ألا يكون أفضل شاعر في العالم.. هناك الكثير ممن يحاولون أن يصبحوا شعراء، ويقضون جلَّ حياتهم من دون أن يستطيعوا أن يكتبوا بيتين من الشعر، وأعرف شعراء ولدوا وكبروا وهم يقرؤون ويكتبون الشعر وبلغوا من العمر أرذله، لكن ليس لديهم أي بيت شعري.

الصوفية وعين الكروم
الصوفية في شعر صقر عليشي ملمح واضح في نصك الشعري، هل كان الأمر للتميز، أم تأثراً؟! التجربة الصوفية سببها البيئة التي أعيش فيها، وهي بيئة صوفية مفعمة بمناخات الأحاديث والأشعار التي سمعناها وربّينا عليها.. هي أشعار صوفية، والناس كانوا يقدسون الشاعر، عندما كنت أسمعهم يتحدثون عنهم كانوا يتحدثون عن مداه، وهذا الحديث واءم روحي، والبعض قرأ قصيدتي (الغزال) على أنها قصيدة صوفية وآخرون رأوها قصيدة غزلية، والبعض الآخر رآها قصيدة إنسانية.. وكلها صحيحة وكلها موجودة في القصيدة.

حبيسة الأدراج
دائما يحتفظ الشاعر لنفسه بقصائد لا ينشرها.. هل هناك قصائد لاتزال حبيسة أدراجك؟ عندي أكثر من ديوان، لكن لم أحتفظ به لنفسي، بل لم يتم نشره لظروفٍ معينة، وأملك مجموعة من القصائد أردت أن أصدرها كديوان في الثمانينيات ونشرت معظمها في جريدة «السفير»، وهي غير منشورة في أعمالي الشعرية، وفي كلِّ مرة أعد نفسي بنشرها في أي ديوان أود إصداره، لكن يصدر بشكلٍ لا يمكن أن توجد معه، وهذه القصائد مكتوبة منذ أكثر من ثلاثين سنة..
“صحيحٌ بأنا تركنا القرى
منذُ وقتٍ طويلٍ..
ولكنْ
ترى هل وصلنا المدينهْ؟
صحيحٌ بأنا قرأنا كثيراً
وطالتْ معارفنا
إنما
أينا في الحقيقة لاقى يقينهْ؟
تميل بطبعك إلى الوضوح والبساطة، كما تعتبر أن مهمة الشاعر إقامة “حفلات التعارف بين الكلمات”، كيف ترى دور الوضوح والغموض في الشعر؟ وهل تؤمن بأن الاستخدام المفرط للغموض يعوق الفهم الجيد للشعر؟ لست مع الوضوح المفرط، كذلك لستُ مع الغموض في الشعر.. ثمة شاعران: واحد واضح للغاية، وثانٍ يتجه نحو الرمزية المطلقة.. الكبيران نزار وأدونيس.. وسأركّز هنا على الفرق بين البساطة والمباشرة.. بالنسبة لي أمقت المباشرة، وأكثر ما أكرهه الشعر الخطابي، كما أميل إلى تبني الشعر المفهوم والابتعاد عن الغموض.. وهذا لا يعني عدم وجود قصائد غامضة بديعة، بيد أنني لم أنجذب لكتابة قصيدة غامضة وغير مفهومة.. يسمُ البعض قصائدي بغموضٍ شفاف بسيط، والبعض يضعها في الوسط بين تجربتي رياض الصالح والحسين ونزار قباني مع ذلك يمكن فهم قصيدتي مباشرةً من دون دراية القارئ بتفسير الرموز أو الظلال التي أحيلت إليها.
” لا رغبة عندي في تغيير العالمْ
أو حتى نصف العالمْ
لا وقت لدي لهذا الأمرْ
لن أترك أفكاري تؤذي حتى حجراً
لن أتركها تحرفُ مليمتراً
مجرى النهرْ
لكن لا يمنع هذا من أني
سأغيّرُ ذاتي الآنْ
بزجاجة خمرْ”..

حكايتي مع النقد
هنا نسألك: كيف تتلقى النقد الموجه لقصائدك؟ هل تتفاعل معه بشكلٍ إيجابي أم على نحوٍ محايد؟ وهل يجعلك أكثر تحفظاً أثناء الكتابة؟ ثمة نقد يبدو بجلاء أنه نقد مغرض، لكنني بشكلٍ عام اعتدت ألا أردُّ على النقد أياً كان نوعه إيجاباً أم سلباً، فإن اقتنعت بالنقد أشكر الناقد، كذلك في الوقت نفسه لا أعتبر النقد وصفة يجب اتباعها في قصائدي..

الموهبة هي من تُوجّه وتُقرر وليس الأمر اختيارياً عند الكاتب عدا أن الإمكانيات تتباين وتختلف من مُبدعٍ إلى آخر

وهنا نذكر أنّ تجربتك تمّ الاحتفاء بها إعلامياً ونقدياً حتى بقراءات من مقاربين لجيلك، فما السرّ؟ ذات يوم حين أرسلت قصيدة إلى ملحق الثورة الثقافي، خشيت من رأي الشاعر شوقي بغدادي الذي كان يُشرف عليه، لذا كتبتها باسم مستعار “ريفي صقر”، والمفاجأة أنها نالت المديح الكبير من قبله، وحين وصلته قصائد مشرفة على السهل سنة (1984) – ديواني الأول الذي يسجل في خانة العائلة الشعرية – لم يكن يعرف شيئاً عني أو عن عمري، ثمّ أتفاجأ بعد أقل من شهرين بمقال صادر في مجلة «الكفاح العربي» الصادرة في لبنان بقلم الشاعر الكبير محمد علي شمس الدين في شعر صقر عليشي يذكر فيه عن “خاصية” نادراً ما نجدها في الشعر العربي المعاصر.
عنونت ديوانك الأخير بـ”نرجس بري”، هل لديك مثل هذه النرجسية، وكيف استطاع الشاعر صقر أن ينجو بنفسه من تضخم الأنا؟ كلُّ الشعراء نرجسيون، ولا أتوقع وجود شاعرٍ غير نرجسي.. لكن أعتقد أن ما يميزني شخصياً هو حبي لذاتي وحبي الكبير للآخرين معاً.. فأي موهبة مميزة من جيلي أو أكبر سناً أو حتى أصغر تلفتني وأبحث عن صاحبها للتواصل معه، وغالباً يكون لها وقع جميل لديه.. كما أبحث عن المواهب الشابة وأدعمها.. بالرغم أني أحياناً – مع الأسف – أجد شعراء يتصرفون كما لو أنهم في سوقٍ للخضار.

في السيرة الذاتية
يذكر أنَّ صقر عليشي شاعرٌ وناشرٌ سوري، مواليد (1957)، عين الكروم (إحدى قرى سهل الغاب في ريف حماة)، من أبرز شعراء جيل الثمانينيات في سورية، عضو اتحاد الكتّاب العرب، مؤسس مجلة الينابيع، ودار الينابيع، تناولت تجربته الشعرية دراساتٌ وأبحاثٌ وأطروحات أكاديمية. من أعماله: قصائد مشرفة على السهل / ١٩٨٤، الأسرار /١٩٨٩، قليل من الوجد / ٢٠٠١، أعالي الحنين /٢٠٠٣، عناقيد الحكمة / ٢٠٠٧، الأعمال الشعرية / ٢٠٠٨، الغزال /٢٠٠٩، مختارات شعرية — وزارة الثقافة – دار البعث ٢٠١١، معنى على التل /٢٠١٤، أسطورة فينيقية/ 2023، مختارات شعرية -الهيئة العامة السورية للكتاب ٢٠٢٢، اللمحات 2023، وأحدث ما صدر له الأعمال الشعرية 2024عن الهيئة العامة السورية للكتاب احتفاءً باختياره شاعر العرب لسنة 2024.
تصوير: طارق الحسنية

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
أكثر من 42 ألف مهجر دخلوا عبر معبر جديدة يابوس مع لبنان محافظة اللاذقية تشكل لجنة مؤقتة لإغاثة العائلات الوافدة من لبنان.. وتجهز 4 مراكز إقامة أكثر من ١٨٠ مهجراً لبنانياً بضيافة أبناء مدينتي حماة ومصياف في منازلهم جلسة حوارية حول  تغطية زلزال شباط وقانون الإعلام السوري مؤتمر رابطة الأطباء النفسيين يبدأ أعماله اليوم المقداد يتلقى اتصالاً هاتفياً من وزير الخارجية السعودي هنأه فيه بتوليه منصبه الجديد الخارجية: عدوان الاحتلال على المنطقة يعكس استمرارية العقلية الإجرامية لديه واستهتاره بالقانون الدولي الوزير صباغ يبحث في نيويورك مع عدد من نظرائه التعاون الثنائي والتصعيد الإسرائيلي في المنطقة انطلاق فعاليات المؤتمر العلمي الدولي  الـ22 لطب الأسنان الحديد: ركيزة مهمة لعرض مايستجد من أبحاث متخصصة في علاج الأسنان والترميم والجراحي وزيرة العمل: ضرورة جهوزية مديريات الشؤون في المحافظات المعنية لاستقبال الوافدين من لبنان