فن التوليف

-التوليف هو غير التأليف! إنه تأليف فوق التأليف!
كان المخرج الذي أبلى بلاءً حسناً في مهنته وقدم أفلاماً سينمائية رائعة، يتحدث بهدوء شديد عن سرّ نجاحه في توقيع أفلام يتلقاها النقادُ بشغفٍ يماثل شغف الجمهور، وفي الاستماع كاتبٌ روائيٌّ يرسم ما يسمعه صوراً مرئية، وينغمس شيئاً فشيئاً في الشّعاب التي يمضي بها المخرج وهو يسجّل تجربته على مسمعٍ من مجموعة متدرّبين: ستكون مُخرجاً حين تتجرأ على “المونتاج”! أنت تنجز شريطاً طويلاً فيه كلُّ علومك التي تبني المَشاهِد: تشغّل الكاميرات، وتحدّد الزوايا وتنفّذ الرؤية التي أعددتها عن السيناريو، وربما تعدّل بعض التفاصيل لأن الواقع يصحّح الصورة الذهنية، لكن حين ينتهي الشريط ستكون أمام عملٍ مختلف عن جمع التفاصيل التي أنجزَتَها وراكمْتَها، وهنا تبدأ اللحظة التي تحتاج فيها إلى “المونتاج” وهي لحظة الشجاعة منقطعة النظير! القصُّ يعني أنك تتخلى عن جزء وضعت فيه شيئاً من روحك! القصُّ يعني أنك تتجاوز أنفاساً سمعتَها بأذنيك، وتدير ظهرك لحيواتٍ كنت قريباً منها، وأن يعمل مقصُّك بسلاسة وأنت متجمّد العواطف!
كان الروائيُّ يسمع حديث المخرج، ويترجم تلقائياً كلمة “مونتاج” بـ “توليف”، ففي غيرته على اللغة يجد مباشرةً البديل الذي لا يُخلُّ بالمعنى وتأخذه التداعيات إلى روايةٍ أتمها لكنه لم يدفع بها إلى الطبع لأنه لم يأنس إلى سلوك إحدى شخصياتها، فكل شخصية روائية تحتاج إلى دوافع وتلك المرأة التي اندفعت إلى حماقات متتابعة قد تدفع قارئاً خبيراً للسؤال: استناداً إلى أي “عقدة” دفعها الروائي في هذا الطريق؟ ما الذي جعله يكوّنها بهذه الطريقة؟ والأدب ليس مجردَ سرديات يتقنها أيُّ نمّام يخوض في سيرة الناس؟ كان متردّداً في حذف الشخصية لأنه ثبّتها أثناء الكتابة، ثم عاش صراعاً كي لا يُضطرَّ إلى هدمِ كلّ ما شيّده من عملٍ تجاوز المئتين وخمسين صفحة، ثمّ ضاق به المكان المكتظ بالصور الدعائية على الجدران الكامدة لأنه تذكّر لوحةً، هديةً، من صديقه الفنان التشكيلي الذي كان بإمكانه أن يحذف من أسفلها، في اليسار، المربعَ الصغير الفاقع الغريب عن جوها الريفيّ الشاحب الحزين!
كان المخرج لحظةَ بدّل الروائي جلسته، يجمع أوراقه ليغادر القاعة، ويترك أثراً خاصاً في نفسه ربما لم يشعر به أحد من الحضور: كلُّ عملٍ إبداعي: مقروءاً، مرئياً، مسموعاً، مصنوعاً، يحتاج في مكانٍ ما، إلى “توليف” أو “مونتاج” يخفف المحمولات التي تُثقله، أو تُفقده بلوغَ رسالته!

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار