تضليلٌ أبيض.. وغاياتٌ سوداء
لا يبدو الأفقُ السياسيُّ ومعه الفضاءُ الاقتصادي قاتماً، على الرغم من تعقيدات وضبابيةِ المشهدِ العام، فالحراكُ في المساراتِ غير الظاهرةِ أكثرُ بكثيرٍ منه في العلن، وقد يكون مغايراً تماماً لما يطفو على السطحِ من معطياتٍ، ولا غرابةَ في ذلك بما أن الحقبة حقبة انعطافاتٍ حادة.. ومن عادة الدولِ – خصوصاً الكبرى- ألا تعترف بانعطافاتها وتجاهر بها.. وهو ما نسميه في أعرافنا الشعبيةِ “مكابرة” غير مستظرفة اجتماعياً.. لكنها مقبولةٌ سياسياً بما أن السياسةَ هي فنّ الممكن الذي تعومُ معه الحالةُ النفعية، والسياسة عموماً ميدانُ مصالح مرتبطٌ بأبعادٍ اقتصاديةٍ قريبة أو بعيدة المدى.
لكن على الأغلب تبقى خطورة الانعطافات الحادة في ما يرافقها من خلطٍ للأوراق.. وهي مهمةٌ يُعهد بها عادةً لوسائل الميديا الفعّالة، لتكون أدواتٍ مساعدةً على انتزاع المواقف عبر التأثير المباشر في الرأي العام، بما في ذلك حسابات احترازية لطريق الرجعة.
من هنا لا يمكن الاسترخاءُ لترويجِ جرعات التفاؤل العالية والدسمة من قبل ممتهني قراءة الطالعِ السوريّ، بالشكل الذي يجري تداوله على وسائل الميديا الجديدة خلال الأسابيع المنصرمة.
فالأمرُ لايختلفُ بمؤداه ونتائجه عن النبوءات السوداء التي درجت ذات “المكنات” على ضخّها طوال سنواتٍ خلت في سياق الحرب متعددةِ الأوجه على سورية.
هو التهويلُ لغاياتٍ عميقةٍ بعيدةٍ كثيراً عن الواقع، تستند في حالتيها “السوداء والبيضاء” على وقائع حيّة على الأرض، لتغليفِ رسائلِ التضليلِ بأمبلاجاتٍ واقعيةٍ ضامنة للنفاذ السلسِ إلى أذهان من يجب التأثير عليهم.. وهذه هي تماماً الحرب المعنويةُ أو الحربُ الرابعةُ التي تخضع اليوم لتنظيمٍ وعنايةٍ أكبر وأكثر دقة من كل الحروبِ التقليديةِ التي جرت عبر التاريخ.
تستند الموجةُ الجديدةُ من الاستهداف الإعلامي للسوريين، على وقائعَ مستجدةٍ شاعت أصداؤها، وانفراجاتٍ منتظرةٍ تجري في كواليس مقصورات السياسة إقليمياً ودولياً، ليكون المنتج الجديد عبارةً عن رسائلَ “تبشير كاذب” أو مبالغٍ بها، بدا معدوها حاذقون في استثمار المعطيات وتوظيفها باتجاه “تفخيخ المستقبل” واصطياد أية إنجازات تحصل على الأرض لتكون فريسةً لحالة عدم الرضى الناتجة عن المقارنة بين ماتم التبشير به تهويلاً، وما تحققَ بالفعل على الأرض، على الرغم من أهمية ماسيتحقق – لو تحقق فعلاً – بعد أن جرى انتظاره مطولاً.. وهذا وجه آخر وجديد للشيطنة التي يبدو أن قدر سورية أن تكون مسرحاً لتجريبها كاستراتيجية استهداف مبتكرة.
في مثل هذه الظروف التي نعيشها في سورية بعد سنوات طوال من “الصراع من أجل البقاء” بكل معنى هذا المصطلح، يمسي كل ما يقال ممكناً وصحيحاً، وبذات الوقت كلّه مفبرك أو كاذب، أي تتماهى الحقائقُ ونقيضاتها في بيئةٍ تواقةٍ وجاهزةٍ لتلقف المستجدات.. والمصادر التي تقدم نفسها لسرد المفاجآت التي تتزايد بشكل لافت ومريب فعلاً.
هنا نصل إلى حتميةِ استعادة حضور الإعلام المسؤول، ومصدرِ المعلومة الصحيحة و الدقيقة، وإن بحثنا عن مصداقية الرسالة سنجد أنفسنا أمام الإعلام الوطني “خاص وعام”، ومن يدري قد تكون تبعات ذروة سباقات التدفق الإخباري والتكنولوجيا المستثمرة فيها، أهم فرصة لعودة الإعلام الوطني إلى واجهة الاهتمام العام.. لأن الغاية هي المعلومة.. والمعلومة بلا مصداقية تمسي هراءً.