الفن التشكيلي السوري .. هل أرّخَ للّحظةِ الفارقة في تاريخ البلد؟
يشكل الفن عموماً، عِبرَ التاريخ والأمكنة، صرخةً وجدانية عميقة يُطلقها الفنانون للتعبير عن هول ما يحدث حولهم من كوارث، أو للابتهاج بأحداث شكّلت «ثورةً جماليّة» في الشكل والمضمون الفنّيين، بل كثيراً ما يكون النتاجُ الفنّي هو نقطةُ تحوّلٍ عظمى وذروة في تاريخ الفن نفسه، لأنه استطاع، بلمسة الجنون المبدعة، تحويلَ «البشاعة الواقعية» إلى «أثرِ جماليّ» يترك دمغتَه الأبديّة على جسد اللوحات والمنحوتات وعلى تقنيات العمل عند فناني العالم أجمع، الذين يبدؤون بعد نقطة التحوّل تلك بطرح أسئلة عن جدوى الفن في الحياة وتحولاته ومآلاته وحدوده!
كيفَ هي حال الفن التشكيلي السوري بعد عشر سنوات من الحرب على البلاد؟ هل استطاع «تصويراً ونحتاً» أن يواكبَ أو يوازي أو أن يكونَ على قدر وحجم الكوارث التي زلزلت البلد؟ وفي حال أنه لم يستطع أن يستنبط معادلات جمالية خاصة به ومناسبة للخصوصية السورية.. فلِمَ ذلك؟
هي أسئلة طرحتها «تشرين» على النحات غازي عانا والفنان عصام درويش.. فكان جواب النحات عانا: «إن أي متابع للمشهد التشكيلي السوري لابدّ أن يلاحظ مجموعة من الإرهاصات، أهمها أن قسماً كبيراً من الفنانين غادروا سورية، وخاصة المقتدرين منهم مادياً، مع تقديري لظروفهم، ناهيك بإغلاق صالات العرض في العاصمة، الذي بدأ تدريجياً منذ عام 2011، وكما بات معلوماً، اعتكف البعض – ممن بقي هنا- عن الإنتاج أو على الأقل عن المشاركة في النشاطات الرسمية العديدة التي بقيت تقيمها وزارة الثقافة ممثّلة بمديرية الفنون الجميلة، وأحياناً اتحاد الفنانين التشكيليين، مثل المعارض الدورية والملتقيات وغيرها من ورشات العمل الفنية، مع العلم أن لكل واحد من هؤلاء المقاطعين أسبابُه الخاصة به».
إن هذه الظاهرة وإن كانت بدأت منذ سنوات قبل الحرب على سورية ولكن استمرارها اليوم وصل حدوداً أكثر حدّية، يتابع عانا، ويقول: «ربما كان التعويض المادي للأعمال المقتناة من المعرض السنوي أو تلك التظاهرات بات زهيداً جداً، وسبباً مساهماً أيضاً بتعزيز موقف المقاطعة ذاك، إضافة إلى تدني سعر الصرف مقابل ازدياد جنوني لسعر المواد والحاجيات الأساسية لإنتاج العمل الفني.. كل ذلك جعل الوضع يزداد سوءا»ً.
بينما يوصّفُ الفنان عصام درويش الحالة، فيقول: «إن الفنّ السوري كان لديه عدة مشكلات، منها ما يخص الفنانين الذين هاجروا وأصبحوا في الخليج وأوروبا لأسباب متعددة تتعلق بالحرب على سورية، ولكن مَنْ سافروا ومَنْ بقوا ينقسمون جميعُهم إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ أول كأن الحرب على سورية لم تمسَّهُ أو كأنه لم يدرِ بها أصلاً رغم فداحتها، القسم الثاني: انعزلَ عن الإنتاج الفني نهائياً لأن آثار الصدمة كانت أقسى على نفسه الهشّة- إن صحّ التعبير. والقسم الثالث: هو من بقي يشتغل رغم تأثره بالحرب على سورية لكنه استطاع أن يهضمَ ما يحدث، ويقدّم أعمالاً بعضُها لا يمكن أن يُقرَأ عمقُهُ الفني إلا بعد سنوات».
تأثيرات مديدة في اللاوعي!
النحات عانا ورغم شعوره بالمرارة بسبب شبه الشلل الذي أصاب حركة الفن التشكيلي السوري سواء في المعارض أو في الاقتناء إلا أنه يبدو متفائلاً، يقول: «أنا لست متشائماً إلى درجةٍ أقلّل فيها من أهمية المشهد التشكيلي اليوم في سورية رغم كل ما أصابه من إجحاف وظلم! هو ما زال بخير وحضور يليق بسمعته التي حققها عربياً وإقليمياً خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، وهو ما زال يواكب التطوّر الحاصل في العالم بما يخصّ فضاءات وأحوال الفن عموماً، وأقيم العديد من المعارض لفنانين شباب وخريجين، شارك فيها بعض المخضرمين المعروفين».
أما عن تأثير الحرب الإرهابية فيعتقد عانا أنها لا تظهر في العمل مباشرة، وهذه حالة صحية لكون الموضوع ليس أدبياً والتعبير عنها بصرياً يجب أن يكون باللاوعي وغير مباشر، هي تأثيرات تظهر بألوان أو رموز اللوحات، أو في منحوتة وجه يفيض بالتعبير عن الحزن (انظر صورة عملي النحتي المرفق).. وحالياً بإمكانك أن تشاهد ذلك في معرض الفنان عصام المأمون المقام في صالة «زوايا» بدمشق ليس على حجم الكارثة!
فيما يرى الفنان درويش أن الفن التشكيلي السوري لم يكن على حجم الحرب على سورية، ويفسّر قوله ذلك بأن «بعض الفنانين أو بعض أنواع الفن تحتاج إلى زمن طويل ليتمكن أصحابها من التعبير، وربما ستنشأ في المستقبل أعمالٌ عظيمة مستوحاة من ذاكرة الحرب على البلاد، وهذا غير مستبعد، لأنه إنْ أنتجتَ عملاً فنياً أثناء الحدث فيكون ذلك نوعاً من ردّة فعل، وقد لا يحمل القيمة الإنسانية الكبرى التي تأتي أحياناً من تأملٍّ مديدٍ لما حدث ولما مررنا به».
وبالنسبة لي شخصياً- يستمر درويش بالقول- إلى ما بعد 2012 حتى استطعت استيعاب صدمة ما حدث! كنت مثلاً أشتغل قبل الحرب على سورية بتقنية شاعرية لها علاقة بعالم الأحلام أو الجنة أو الطبيعة البِكر والبيوت النائمة على أسرارها أو غُرفها، وعلاقة الداخل بالخارج.. هذا الجو الشاعري الحالم اختفى بعد 2012 وبدأ معه جوٌّ مشحون بالغضب أو الدهشة أو الخوف، ونتج عن ذلك ما سميته «وجوهاً عربية معاصرة» (لأن ما حدث من زلازل الحرب على سورية حدث أيضاً في بعض البلدان العربية)، وعبّرتُ عن ذلك بوجوه خائفة، قلقة على مستقبلها، غاضبة، حائرة، وجوهٌ رسمتها بتقنية خاصة هي ورق ذهب على قماش.. وهي بشكل ما تؤرّخ للحظةٍ فارقة بتاريخ البلد، هي لحظة المأساة التي حلّت بنا.