مبادرة «حمص يا دار السلام» .. فِعلُ مواطنةٍ وشعورٌ بالاطمئنان!

«لطالما كانت الخدمات المقدمة من قبل الجهات المعنية ترضينا قليلاً أو كثيراً، لكنّ ذلك لا علاقة له بكوني مواطناً، فـ «شعورُ المواطنة» هو فِعلُ أخْذِ وعطاءٍ معاً، واجبٌ وحقٌّ بالتوازي، وبما أن البلاد والعباد مرّت وتمرُّ بظروف استثنائية فالأولى أن نفكّر بطريقة أكثر ديناميكية وألّا ننتظر حلولاً من السماء، لذلك كانت هذه المبادرة (حمص يا دار السلام) فعلُ مواطنة، ووقفة من قبل المشاركين فيها إلى جانب الوطن »…
بهذه العقلية الناضجة والروح الجبّارة أجابنا المخرجُ المسرحي مؤسسُ ومديرُ مشروع «فضاء حمص الثقافي» على سؤال «تشرين» له: ما هو دافعك لهذه المبادرة ، هل هي ردّةُ فعلٍ على واقع بيئيٍّ وخدميٍّ سيئ أم هي أعمق وأبعد؟ بمعنى؛ هي خطوة في محاولة تفعيل «النشاط الأهلي» أكثر وتشجيع الناس على تحسين شروطهم الحياتية من دون انتظار الحلول الجاهزة من الجهات المعنيّة ؟ ولماذا هذه التسمية: حمص يا دار السلام؟.
ويُكمل بقوله: «الغايةُ منها إذاً ليست فقط تأهيل حديقة إنما خلقُ مساحة لعودة الطمأنينة إلى النفوس بعد أن تسلّلَ إليها الغبار الفاسد خلال الحرب على سورية، هي مبادرة لنُظهِرَ تجاه بعضنا الاحترام والصدق والتعاون، أمّا عن التسمية فهي مقتبسة من أهزوجةٍ تراثية تُردَّدُ في «العراضات الحمصية» مطلعُها (حمص يا دار السلام/فيكي مربى الأسودِ) فهل هناك أجمل من ربط اسم مدينة بكلمة «الدار» وما تحمله من ألفة واطمئنان، وكذلك بكلمة «السلام» وهو غايةُ الغايات»!.
نسألُه: كيفَ هو تأثيرُ كونك ممثلاً ومخرجاً مسرحياً- معروفاً ومشهوراً في أجواء مدينة حمص- على إنجاح المبادرة وتالياً درجة استجابة الآخرين لها؟.
يقول إبراهيم: «أمّا عن كوني مخرجاً معروفاً في حمص فهذه كانت بطاقة المحبة التي فتحت أبواب المعنيين أمامي للحصول على الموافقات اللازمة، وهل في هذا ضيرٌ لأحد! بل أتمنى أن يستثمر كلُّ ذي شأن اسمَهُ في تقديم المعونة للناس أفضلَ مِنْ أن يستثمره في اكتساب المنافع الشخصية له ولذويه، كما أنني لا أفصلُ بين كوني فناناً، وكوني مواطناً، فنحن مواطنون قبل أن تلتصقُ بنا صفاتُ أعمالنا اللاحقة»!
العمل التطوعي قيمة مضافة!
المتطوعة سميّة البيروتي -إجازة في الأدب الإنجليزي وماجستير ترجمة، تحكي لـ«تشرين» كيف تعرفتْ على مشروع «فضاء حمص الثقافي», واجتذبها العمل التطوعي معهم لـ«إحياء هوية حمص التراثية» خاصة سور حمص القديم وحاراتها القديمة مثل «البواب السبعة» وباب دريب وغيرها… بمعنى محاولة إعادة الألق لما هو مُهمل من تلك المناطق, تقول: « ذاك الإهمال المقصود أو غير المقصود لتلك الحدائق والمساحات داخل المدينة المتروكة لتراكم الأوساخ والأشواك والحشرات… كان أيضاً حافزاً لنا لنحقّق تغييراً واضحاً، ولنفعّل دور المجتمع الأهلي، وليكون للناس أنفسهم خطوات تنفعهم، ونتاجٌ مثمرٌ يعودُ كقيمة مضافة عليهم أنفسهم. فعندما يتعبُ أهالي أيّ مدينةٍ كانت في عملٍ ما ويبذلون جهداً حقيقيّاً من أجله؛ سيشعرون عندها بقيمته ويسعون للمحافظة عليه من التخريب أو الإهمال».
وبرغم التزامات البيروتي الكثيرة وعملها مع الطلاب إلا أن وجود الأستاذ سامر إبراهيم قائداً للفريق التطوعي حفّزها على المشاركة بما لديه من اندفاع وشغف في أعماله كلها، بحسب وصفها، و«لأن الناس أيضاً عندما شاهدت ولمست أننا جهة مجتمعية ولسنا جهة حكومية أو جهة نفعيّة؛ تشجعوا للانضمام إلينا وأتوا من حارات بعيدة ومن اختصاصات مختلفة».
حكاياتٌ ومبادرات متواصلة!
الأستاذ سامر إبراهيم، وفي سياق الحكايات المستمرة والتفاصيل التراكمية قطرةً وراء قطرة أو خطوة وراء خطوة، يخبرنا كيف أن «بداية المشروع كانت عام 2011 مع فكرة تحويل مساحات مهملة إلى حدائق! لكن ما إنْ أتت الحرب على سورية توقفنا حتى عام 2017، ثم قدمنا مبادرة اسمها «حدائق حمص العديّة» بموافقة وتعاون ومساعدة من مجلس مدينة حمص، هدفها إزالة الأنقاض من تلك المساحات، وترحيل القمامة منها بأدوات وجهود بسيطة لكن بشغف وإصرار، ثم انتبهَتْ منظمةُ «إسعاف أوليّ الدولية»، المرخصة للعمل في سورية، إلى ما نقومُ به واقترحَتْ أن نقيمَ مبادرة تخص الأطفال لتوعيتهم على حقوقهم ومستقبلهم. وهكذا تعاونّا معاً، وخرجنا بمبادرة سميناها «أطفالنا هم التغيير», وهذه من ضمن مشروع «حدائق حمص العديّة», قمنا حينها بصبِّ مساحة بيتونية مع مجموعة مقاعد يتوسطُها تمثالُ فتاة تقدّم وردةً لطفل ذاهب إلى المدرسة، ونفّذنا لوحة جدارية (بطول 25 متر وارتفاع 3 أمتار) فيها رسومات مشغولة بالسيراميك المُكسّر (إعادة تدوير) تُبيّنُ حقَّ الطفل في التعليم، وحقّه في العيش الآمن، والصحة، مع زراعة أشجار متنوعة وبحضور مجموعة كبيرة من أهالي الحيّ».
ولو بشربة ماء!

المتطوع إلياس ديوب موظف في مصفاة حمص, وهو المنسق اللوجستي لمبادرة «حمص يا دار السلام» يقول لـ«تشرين»: إن وجودَه نوعٌ من المحاولات المستمرة من قبل فريق «فضاء حمص الثقافي» لجعل العمل المجتمعي أوسعَ، والتماسكَ الاجتماعي بين الناس مثمراً أكثرَ، وصحيّاً أكثرَ، وشاملاً لبيئات وشرائحَ اجتماعية مختلفة، وإن دوره في المبادرة هو تأمين المستلزمات من مواد حفر وتعشيب وقصّ أعشاب يابسة وأشواك، والتنسيق مع مَنْ يمكن أن يتطوع لجلب مياه أو إسمنت أو أي شيء مفيد لهذا النوع من العمل.
«لكن الهمّ الأكبر والهدف الأهم هو تفعيل دور الناس في تنمية مجتمعهم الأهلي بدءاً من حارتهم وصولاً إلى فضاء المدينة الأوسع –يتابع ديوب- برغم معرفتنا أن تجاوب الناس عادة يكون خجولاً ومحدوداً، لكنهم مع مرور الوقت ورؤيتهم لاستمرارية المشروع وللشغف الذي نعمل به كفريق تطوعيّ أهلي… يتشجعون ويبدؤون بالتوافد والتواجد والمشاركة بمساعدة بسيطة ولو بشربة ماء»!.
هواء نقيّ مختلف!
لم يكتفِ إبراهيم صاحبُ مشروع «فضاءُ حمص الثقافي» بالعمل على المنحى الاجتماعي، بل كان، على مدار السنوات الماضية، يرفدُه بمنحىً ثقافيّ غنيٍّ بتفاصيله، إذ كان لديهم مبادرة بعنوان «ريبرتوار حمص الثقافي» مهمّتُها، كما يصفها لنا- تجسيرُ الهوّة بين الشباب المسرحيين الجدد، وجيلِ الممثلين المخضرمين ولو عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، وعِبرَ نشرِ نصٍّ مسرحيٍّ يبدأ التفاعلُ معه بالنقاش أو بالبحث عن تاريخ عروضه العالمية، وتقومُ مجموعة بتمثيل جزء من هذا النص… ثم في النهاية تتمُّ مناقشة كل ما حصل بحضور جمهور من الناس والمهتمين، وقد اشتغلنا على نصوص مسرحية مهمة مثل: طقوس الإشارات والتحولات للراحل سعد الله ونوس، وبستان الكرز لتشيخوف، وسفربرلك لممدوح عدوان، والمفتّش لغوغول…وغيرها.
وهكذا فيما تتهادى هناك على الأرض مشاهدُ العمل التطوعي الجبار الذي يقوم به متطوعون ومتطوعات وأطفال وأهالي الحي وبعض المهتمين الذين قدموا من أحياء حمص الأبعد… يتابعُ المخرج إبراهيم دأبه، ليس فقط يداً بيد مع أولئك المتطوعين، بل أيضاً في إتاحة مساحاتٍ للفكر التوعوي وفضاءاتٍ يتمكّنُ الناس من خلالها «أنْ يتنفّسوا هواءَ الموسيقا والرسم والنحت والنقاش الفكري والمسرحي بعيداً عن كوارث الواقع»… كما يأمَل.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار