العطّار إيهاب جرّاح .. وهل أجمل مِنُ أن يُقالَ لكَ: رائحتُك طيّبة!

«جان باتيست غرونوي» اسمٌ سيلتصقُ بذاكرة من يقرأ رواية «العِطر» للألماني “باتريك زوسكيند” كما تلتصقُ رائحةُ السمك بجلد البحّار الصيّاد أينما كان؛ لأن الروائي عرف كيف يجعل من شخصيته العجائبية «الشيطانية» تلك خزّانَ روائحَ لا ينفد، وجعلنا نتشمّمُ تلك الشخصية بعفنها وحموضتها ممتزجةً مع التركيبات المثيرة المبهرة المدوّخة التي يمزجها من عبق أجساد العشيقات اللواتي يغتالهنّ، ولأن بوسع البشر أن يغمضوا عيونهم أمام ما هو عظيم أو مروع أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول … ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق لأنه شقيقُ الشهيق ومعه يدخل إلى ذواتهم!.
لكن لماذا نذهب بعيداً في عالم الروائح الغريب وقصة القاتل غرونوي وكيمياءِ القصص البوليسية ؟ فيما لدينا هنا في دمشق يقول نزار قباني:
(جئتُكم من تاريخ الوردة الدمشقية التي تختصر تاريخ العطور… أتَغَلْغَلُ في سُوق البُزُوريَّة مُبحِراً في سُحُبِ البَهَارْ وغمائمِ القرنفُلِ والقِرفةِ واليانسُون وبماء العِشْقِ مرَّاتْ… وأنسى ـ وأنا في سُوق العطَّارينْ – جميعَ مستحضراتِ (نينا ريتشي) و(كُوكُو شانيلْ)).

ولأن لدى العرب تاريخاً عريقاً في صناعة العطور وتسمياتها المتعددة مثل: الطِّيب والشذا والعبق والضَّوع والفوح والأريج والعبير وغيرها… ولأن للسوريين بصمتهم ونكهتهم في زخرفة كل شيء التقت «تشرين» الشاب العطّار إيهاب جرّاح الذي حكى لنا حكايته مع العطر:
حين بدأتُ المهنة كنتُ في الصف الثامن الإعداديّ, كنتُ أعمل في عطلة الصيف حين وضعني والدي عند أحد أصدقائه العطّارين المميزين وهو شيخ كار من شيوخ صناعة العطر هذه المهنة الدمشقية العريقة, كنت نشيطاً وعندي شغفٌ لأعرف كل شي عن هذه المهنة لأنني أحسستُ كم هي ممتعة و«شغلة نضيفة» – يقولها بالعاميّة – كما إنني كنتُ ملفتاً لانتباه الجميع من حولي، خاصة زملاء الدراسة وأصدقاء الحيّ الذين يسألونني بإعجابٍ واضح أو بغيرةٍ خفيفة مبطّنة: ما هذه الرائحة الطيبة التي ترشها على ثيابك! أو كنتُ أتلقى عبارات المديح مثل: رائحتكُ زكيّة يا شبّ! أو يتساءل أحدهم: من هذا الذي يضع عطراً مميزاً؟ فأجيبهم فخوراً وسعيداً: إنه أنا!.
جرّاح تلقّى المهنة قطرةً قطرةً، يتابع فيقول: وتشجعت حينها بإلحاح من زملاء المدرسة الذين يطلبون منّي تركيباتٍ وخلطات وزيوت عطرية خاصة بهم، لذلك لم أتوانَ عن تلبية طلباتهم يومها كانت هناك أنواع شهيرة مثل: «السيجار والدولتشي غابانا والفاسونابل» بإحساس من السعادة لا يوصف لفتىً في الصف التاسع, يومها كنتُ أجتاز المسافة بين بيتنا في شارع الأمين في دمشق القديمة وحيّ الصالحية حيث ورشة ومحل العطارة قفزاً وطيراناً كما لو أنّ قدميّ ليستا على الأرض, هكذا تعلّقت بتفاصيل مهنة العطارة وبقيت في المحل ذاته لأن أصحابه الكرام أدركوا محبتي وشغفي بها، ولذلك عاملوني كما لو أنني ابنٌ لهم، ولم يبخلوا عليّ بأي معلومة من أسرار الصنعة لكنهم علّموني إيّاها قطرةً قطرةً ليجعلوني متشوقاً دائماً للمزيد من سِحرها.
ابن المصلحة!
بعد شهادة البكالوريا قرر أصحاب المحل الاعتماد عليّ بشكل شبه كامل في إدارة المحل وكيفية التعامل مع الزبائن بطريقة تشعرهم بـ«معلّميّتي» وبـ«أنني ابنُ المصلحة» – يكمل لنا جرّاح تفاصيل الحكاية – حتى أنّ المعلّم صاحب العمل كان ينصحني بأن أتعرّف على رائحة عِطر الزبون قبل أن يطلبها منّي أو بمجرّد أنْ شممتُ طرفَ الرائحة العالقة على زجاجته وقبل أنْ أرى الاسم المكتوب عليها… كل ذلك من يوميات وذكريات وتفاصيل وتعب وجهد وشغف جعلني أحلم بأن أطوّر مهنتي بالدراسة الأكاديمية للعطور في معاهد عالمية، لكن القدر وظروف العمل واعتماد أصحاب المحل على وجودي، وتعلّقي بهم وبالمحل حوَّلَ نظري من السفر إلى تقديم الإخلاص أكثر هاهنا للمحافظة على سُمعتي وسمعة المحلّ والمستوى الذي وصلنا إليه في جذب الزبائن لدرجة أننا تمكنّا من أن نصنع لبعض الشخصيات الخاصة من ممثلين ورياضيين مشهورين ومطربين وحتى دبلوماسيين سوريين وعرب تركيباتٍ خاصة بهم تتناسب مع شخصياتهم وأذواقهم.
التجربة أكبر مدرسة في الحياة!
أمّا عن تطوير نفسي فالتجاربُ هي أهمُّ مدرسة لي أو هي التي تؤسّس لوضع كتيبات وكرّاسات في كيفية تحضير عطور لم تكن موجودة مسبقاً أو تجعلنا «نخترع» نسخاً منها تشبهها لكن فيها من روح العطّار وجهده وذوقه وخبرته الطويلة، لذلك عملتُ مع أصحاب المحل على تطوير خلطات نادرة باتت مثل ماركة مسجلة لنا، منها معطّرات للجسم، منها كريمات «لوشن» تحتوي مواد طبيعية صديقة للبشرة وللشعر والوجه، حتى إننا عملنا خلطات لتعطير البيوت والسيارات والمكاتب بما يتناسب مع راحة الناس وطبيعة أعمالهم.
وللحنين عِطرُه الخاص!

يصمت جرّاح قليلاً كأنما للحنين رائحةٌ خاصة لا تأتي إلا مع الغصة أو الدمعة، يقول مستذكراً أصدقاءه: بعضُ أصدقائي هاجروا إلى أوروبا أو سافروا إلى بلاد الخليج وجرّبوا عطوراً عالمية غالية الثمن ومن أشهر الماركات لكنهم برغم ذلك ما زالوا يطلبون منّي تركيب عطورهم المفضلة التي تذكّرهم بأيامهم الحلوة في هذا البلد.
وجواباً عن سؤالنا فيما إذا كان يطمح لتركيب عِطرٍ خاص به، يقول: «بصراحة ليس طموحي بهذا الشكل، إنما أتمنى الاستمرار في هذه المهنة بهمّة وقدرة على تمييز تفاصيل أكثر وأكثر من الروائح المذهلة في العالم… مع امتناني ومحبتي لكل من دعمني من أصحاب العمل ووالديّ وأحبّتي”.
وهكذا كنا وسط محلِّهِ نسبحُ على غيمات عِطرٍ تهدهدنا الذكريات والتاريخ أو تأخذنا التهويماتُ والحكايات العالمية أو نسكنُ إحدى الزجاجات الملونة على تلك الرفوف أو نختبئُ في بتلاتِ وردةٍ شاميّة تحتضنها الحبيبات القادمات لشراء هديةٍ تترك أثرها العبِق على أجساد وأرواح أحبّتهن… فيما الجملة التالية كانت تتسلّلُ إلى عقلي مثل رائحة مُدوِّخة:
إنْ أُجبِرتَ على التلّونِ فكُنْ كالوردِ، وإنْ أجبرتَ على السقوط فكُنْ كالمطر، وإنْ أُجبِرتَ على الصمت فكُن كالليل… وإن أحرقوك فكُن مثل عود البخور.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار