كتاب (علم نفس السعادة).. أن تعيش (تجربتك المثالية) بمتعةٍ ومعرفة!

من النادر جداً أن تجدَ كتاباً مخصصاً للدراسات البحثية الجامعية وفيه هذا الكمّ من المعرفة والمتعة معاً. بل هذا هو بالضبط جوهر فكرة الكتاب أيضاً، أي إنه بقدر ما يتحدّث عن العِلم/المعرفة المقترنِ بالمتعة/السعادة، هو كتابٌ مشغول بروح المَرَحِ المعرفيِّ الذي تحدّثَ عنه الكاتب في مجمل فصول الكتاب.
إنه كتاب (علم نفس السعادة) لمؤلفه (ميهالي سيكزنتميهالي)، بترجمة مميزة وفريدة من الدكتور (غسان بديع السيّد) عن اللغة الفرنسية وليس الإنكليزية التي كتب بها الكتابُ الأصل، (إصدارات جامعة دمشق، سلسلة الأدب العلمي)، والذي يمكن أن تفتح أي فصلٍ فيه لتقرأ ما يُغني ويفيد، فهو يجمع بين دراسات الطبائع البشرية عموماً بعيداً عن الغوص في المشكلات النفسية والاضطرابات المزمنة، وبين الإحصاءات الاجتماعية على عينات كبيرة تمت دراستها عبر ما يقارب عشرين سنة، وكذلك اقتباساتٍ من أفكار فلسفية منذ سقراط حتى علوم الفيزياء الحديثة … وكل ذلك بتسلسل صافٍ ومهذّب، وبلغة بحثية عالية المستوى.
لذلك يبدو من الصعب الاقتباس من أفكار الكتاب بالرغم مما يحتويه من استطرادات تبدو للحظة غير مهمة لكننا لو تمهلنا قليلاً لتبيّنَ تماسكها وترابطها والغاية من قولها حتى لو كانت كذلك في الهوامش التي يقدّمها (المترجم الفرنسي) والتي فيها غنىً بالإحالات إلى مصادر فلسفية ودينية وكتب علم نفس وروايات.
ولن يخفى على القارئ المتمهل ما يزرعه المؤلف “ميهالي” من انتقاداتٍ وملاحظات لـ”الحياة المعاصرة” في “البلدان المتقدمة” مثل أمريكا وفرنسا وكندا…. معتمداً على دراسات زملاء أكاديميين نقّبوا وفتّشوا باحترافية ودراية وخبرة طويلة عن أمراض مجتمعاتهم تلك. ملاحظاتٌ أعطت لجسم الكتاب “قيمة مضافة” زادت من جدارة المؤلف كباحث متمرِّس.
متى نشعر بالسعادة؟
جوهرُ الكتاب يكمن في الفقرة التالية: “هل قَدَرُ الإنسانية أن تبقى غير راضية، وكل شخص يرغب في امتلاك أكثر مما يستطيعه؟ هل الضّيق الذي يُفسِدُ غالباً لحظاتنا الجميلة يأتي من حقيقة أن الفرد يبحث عن السعادة في أسوأ مكان؟… ومتى يشعرُ الناس أنهم أكثر سعادة؟”! ويجيب الباحثُ بفقرة لاحقة مختصِراً مجمل الكتاب الذي هو إجاباتٍ مفصّلة عن الأسئلة الجوهرية أعلاه. فيقول ما معناه: بعد عشرين سنة من البحث اكتشفتُ أن السعادة ليست شيئاً يأتي مصادفة أو نتيجة للحظّ، ولا تعتمد على شروطٍ خارجية، إنما على طريقتنا في تفسير وفهم تلك الشروط الخارجية. السعادة تجربةٌ داخلية على الإنسان “إعدادها” و”تنميتها” و”حمايتها”، وعلى الناس أن يتعلموا السيطرة على طاقاتهم الذاتية، ومراقبة انفعالاتهم الجسدية والعاطفية بدرايةٍ ومعرفةٍ… وبذلك يمكن الاقتراب مما يمكن أن نسمّيه “الكائن السعيد”!.
ولذلك يحلّل “ميهالي” سوسيولوجياً (اجتماعياً) في فقرة “دروع الثقافة الواقية” أمراض المجتمعات على اختلاف طبقاتها أو تصنيفاتها، وكيف يدخل أفراد المجتمع في “القلق الوجودي”، فـ”الكونُ لا يعمل من أجل رفاهيتنا، وليسَ عدوانياً ولا وديّاً، هو فقط غير مكترث”، ومن هنا تأتي أولى مآسينا التي حاولنا تجنّبَها عبر أساطيرٍ ابتكرها الإنسان كي يطمئنَّ، “لأن عدم الإشباع المزمن” و”الحرمان الذي يطبع بعمق مسار حياتنا كلها” هي الأسبابُ العميقة و”جذور عدم الرضا” الذي يضرب بعمق نفوسَ البشر ويجعلهم يلجؤون إلى “الدين، الفلسفة، والفن، وبعض الرفاهيات” بوصفها دروعاً واقية من أن يُصابوا بالتوتر والقلق تحت وطأة السؤال الوجودي الدائم: “ما جدوى الحياة؟ وهل تستحق الحياة منا كل هذا العناء؟”، وكي لا ينهار كل شيء حين ينظرون إلى المرآة التي تُظهر تجاعيدهم وآلامهم الجسدية، ويصارحون أنفسهم بأسئلة مثل: أمِنْ أجل كل هذا عشت؟ هل هذه هي الحياة التي تمنيتها؟ أو “كيف لم أنتبه إلى أنني لم أعش حقيقةً وأنّ كل ما عشته مجرّد أوهام”!
بمساعدة علم النفس!

“ميهالي” بكونه عالم نفس خبير فهو يميل إلى ترجيح كفّة علم النفس في مساعدتنا على “تحسين نوعية حياتنا (رغم) ما نحن عليه”، وكيف علينا ألّا ننتظر “التغيير” من الخارج، من المؤسسات، أو من الآخرين، أو من الأهل، ولا حتى من المعتقدات الدينية والثقافية السائدة… بل بتطوير قدرتنا الذاتية للسيطرة على الاكتئاب بعيداً عمّا يسميه “انتظار المكافآت” أو “توقّع الجزاء/العقاب” أو حتى الخوف من الفشل…عارفاً ومدركاً أن هذا ليس بالأمر السهل، لكنه ليس بالمستحيل عبرَ المثابرة والصبر، والتقليل من التشنّج والتشدّد الفكري، ومحاولة التمييز بين ما هو مهم بالنسبة للشخص وما هو غير مهم، بل والوعي بـ”أننا نعيش في مجتمعات تسيطر علينا بفكرتي الجزاء والعقاب كما حين نحاول إقناع الأطفال بأن “الحلوى والخبز مع المربّى يأتيان لاحقاً”، ولذلك فالخلاص من هذا “الاستلاب الذي تقوم به آليات السيطرة في المجتمع” لا يُمكِنُ إلا – بحسب ميهالي – “حين يستطيع الفرد العثور على الفرح والمعنى ضمن “جريان” حياته اليومية الشخصية الداخلية وعبرَ السيطرة على الوعي بهذه الحياة التي نعيشها نفسها”.
لكن “ميهالي” بخبرة عالم نفس مجرّب وأكاديمي يُعارِضُ ما ذهَبَ إليه هو نفسُه في الفقرات السابقة، ويحاجج فكرتَه ذاتها، ويناقضها كما لو أنه يقول الانتقادَ الذي يمكن لأي قارئ أن يوجهه له.
يقول: “إنْ كنا منذ قرون نعرفُ ما الذي يساعد على تحرير الفرد، فلماذا لم نُحرِز تقدماً في هذا المجال؟ ولماذا نحن أقل قدرة من أسلافنا على مواجهة العقبات أمام السعادة؟”، ويجيبنا بما يمكنني تلخيصُه: إنّ الحكمة الضرورية لتحرير الوعي ليست تراكميةً، ولا يمكن حفظها عن ظهر قلب، ولا تُطبّقُ بصورة آليّة… إنها تُكتسبُ بالتجارب والأخطاء… بالإضافة إلى أنها تتطلّب الالتزام العاطفي والإرادة، إذ لا يكفي أن نعرفَ ماذا نفعل؛ إنما الأهم أن نفعله بحبّ حتى لو كان صعباً وشاقّاً وبعيد النتائج!.
فصول من المتعة
نقرأ في الكتاب فصولاً بعناوين مثل: آلية عمل الوعي، خصائص التجرية المثالية، الشخصية ذاتية الغاية، التجربة المثالية عبر الجسد، التجربة المثالية عبر الذهن .. وجعْلُ الحياة لها معنى. لكن اللافت في الكتاب مع تلك الكثافة المعرفية، هو شكلُ بنائه التصاعديّ كما لو أن “ميهالي” يعيش “تجربته المثالية بمتعتها الخاصة به” فيما هو يرصِفُ فقرات كتابه ويُشيّدُ بهندسةٍ نفسيّةٍ ومعرفية مداميكَ هذا الكتاب الضخم والنفيس بشكل يجعلنا متلهّفين لعيش الملذّات المعرفية التي يعدنا بها في الفصول المتدفقة، لأنه عرف بحيلٍ سحرية كيف يشبك خيوطَ أساطير وقصصاً واقعية وشهاداتِ آلافٍ من أفراد العينة المبحوثة ضمن نسيج حكايته الخاصة وأن يقدّمها لنا حلْيةً كرنفاليّةً غاية في المتعة.
نتمنى أن يكون في متناول الجميع وخصوصاً طلاب قسمي علم النفس وعلم الاجتماع في جامعة دمشق المشكورة على هذه المنشورات القيّمة!.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار