كأننا روائحُنا .. ولسنا فقط لونَ عيوننا وأسمائنا!
دُرّاقة… دراقةٌ واحدة كانت كافية لتجعلني أسبح في غيمة عطر!
ليستْ حلاوتها المُسكِرة التي انبجست من لبِّها وسالتْ على شَعر ذقني، ولا موسيقا «قَرشتها» الناعمة، ولا ملمسها المخمليّ، ولا لونها الإعجازيّ الخمريّ الملوَّح بالبرتقاليّ والأصفر… ليست كل تلك التفاصيل هي مَن فعل ذلك.. بل رائحتها!
كأنّ في كهوف الذاكرة تغفو قارورة عِطر وجاءت هذه الدراقة بلمسةٍ سحرية فأيقظتها وجعلتها تفوح، كأن الإنسانَ في أحد تعريفاته هو مزيجٌ من ذاكرة الروائح والأطعمة والأخيلة.. كأننا روائحُنا ولسنا فقط لونَ عيوننا وأسمائنا.
هكذا خطر في بالي أن أسأل الباحث وأستاذ الفلسفة يحيى زيدو: ماذا تعني لك الرائحة؟ وهل يمكن مثلاً أن تكونَ فاتحةً لصداقة مع أحدهم أو أن تصبح سبباً في إنهاء علاقة ما؟ فأجابني: «تاريخياً، يَعتَبِرُ الفيلسوف اليوناني «ديموقريطس» مُنظّر الحواس الأول، أنَّ الرائحةَ وسيلة تواصل، وأنّ الشم مسؤول عن الرغبات والمشاعر والخيال. فيما يَحمِلُ «أفلاطون» على العطور حملةً شعواء باعتبارها أداة للتخنّث واللذة الجسدية من وجهة نظره. أما «نيتشه» فيعتبر الأنف أداة رائعة خذلناها فلسفياً وأهملناها. هذا الأنف الذي لم يخصه أي فيلسوف إلى حد الآن بما يستحق من عبارات الإكبار والامتنان؛ هو إلى حد الآن الأداة الأكثر رهافة مما بحوزتنا من الأدوات التي في خدمتنا! وعندي أن العطر المنبثق من المرأة أهم من العطر المسكوب عليها، وفي التاريخ نجد أن الملكة الفرعونية «حتشبسوت» كانت أول امرأة استخدمت العطر بعدما كان حكراً على الموتى، أما «كليوباترا» التي حكمت مصر 51 عاماً فقد كانت أكثر شغفاً بالعطر، إذ كانت تسحر الملوك برائحة عطرها الذي لم يكن إلا من أعشاب تنمو في جبل بجزيرة قبرص».
وأتوجه بالفكرة إلى الصديقة المغتربة فاديا رستم (باحثة في المجال الاقتصادي) وأسألها: ماذا عن ذاكرة الروائح في وجدانك؟ والعطور هل لها من كيمياء خاصة في روحك؟
ترسِلُ لي وردةً وإجابةً، وتقول: «تغني فيروز (في باب غرقان بريحة الياسمين) فللأماكن رائحةُ أصحابها وللأصوات عِطرُها.. والرائحةُ كالموسيقا تماماً! لذلك أعودُ بذاكرتي إلى تلك السفرات الصيفية إلى ضيعتنا، ليلاً أو عندَ الفجر، كنّا ننام في مقاعدنا فيما أبي يراقبنا ويراقب الطريق. أذكر جيداً عندما كنت أستيقظ فورَ استنشاقي عطراً خاصاً بمنطقتنا الجبلية في «وادي النضارة» فأقفز من نومي بكل ما تعنيه الكلمة، وأصيحُ فرحةً: لقد وصلنا إلى الضيعة. يسألني أبي: كيفَ عرفتِ؟ أبتسمُ وأجيبه: من رائحة الأرض وعَبَقِ الجبل.. فنضحكُ بمحبة غامرة. أجل الرائحة تسكنك وتسكن خلايا ذاكرتك فتستحضر نفْسَها إمّا حزناً أو فرَحَاً».
الرائحة والألم!
لكن هل يمكن للرائحة تخفيفَ الألم الجسديّ؟ يجيبنا الروائي والمترجم عقبة زيدان كما لو أنه يكملُ خيط الأفكار المنسوج من خيالاتنا معاً: «ذكرتُ في روايتي «هيولى» مقطعاً عن تأثير الرائحة على كياني بعد مرور زمن طويل.
يقول الراوي: كان في السادسة من عمره، عندما وقع وكُسرتْ يده. لا يمكنه نسيان الألم الرهيب بعد دقائق من الكسر، ومن الصعب عليه وصف احتكاك العظام وما تولده من رغبة في التخلص من الوعي في لحظات الوجع. خرجتْ أمه على صراخه، وشاهدت يده المتدلية. صرختْ صرخة قوية واتجهت نحوه، ثم شرعت بالبكاء. هو يذكر تلك اللحظات بشيء من الخوف والرغبة، ذلك أن والدته عندها كانت تغسل الملابس، ولا تزال على يديها رغوة الصابون، حملته بين ذراعيها، وهرعت راكضة إلى الطبيب الشعبي في الحي المجاور. في الطريق، شعر بالطمأنينة، وأن ألمه قد تضاءل. كان ذلك مجرد شعور، لأن احتضان أمه له، غمره بالأمان. رائحة الصابون الخاص بالأم والاحتضان الحنون، ما زالا قابعين في ذاكرته، ولا يمكن محو هذه الحادثة الأليمة. لم يكن الألم بعد هذا الزمن، نتيجة الكسر، لأن الأمر قد ولّى منذ زمن بعيد، وأصبحت حادثة الكسر، التي يمتَنُّ لها أحياناً، شيئاً لتذكُّرِ الألم فقط. إنها ذكرى الأم، عن طريق استحضار رائحة الصابون المميزة لها، واليدين الرطبتين اللتين تحيطان بجسده الصغير المرتجف»!
رائحة أبي ..!
إذاً هو حبلٌ سرّي يربط الرائحة بتفاصيل شكّلت ذواتِنا وتركتْنا عالقين في شبكةٍ من حرير الذكريات.. يُكمل الأستاذ زيدو سردَ حكايته: «رائحةُ أبي لا تزال عالقة في ذاكرتي رغم رحيله منذ ما يقارب نصف قرن. ما زلت أذكر كيف كنتُ أهرع إليه وهو عائد من عمله لأشم رائحةَ عرقه التي لا تزال الرائحة الأقدس عندي! وثمة رائحة الأرض بعد مطرٍ أوّل، ورائحة خبز التنور في الصباح والمساء، والتي تحيلني إلى طفولتي في القرية ».
أشعرُ بالأستاذ زيدو يتوقف عن الكلام متأثراً ثم يكمل: «قال الروائي اليوناني «نيكوس كازنتزاكيس» على لسان «زوربا»: أعتقد أن لكل إنسان رائحة خاصة. روائحنا جميعاً تمتزج ببعضها فيتعذر علينا تمييزها ورَدُّ كلِّ رائحةٍ إلى صاحبها .. »!.
لكل عمل عظيم رائحة خاصة!
بينما يذهبُ الأستاذ زيدان نحو جمالياتٍ أخرى، فيقول: «الرائحةُ التي ترافقنا لا ترتبط فقط بطيبها وشذاها، وإنما بالموقف والمكان والحالة النفسية. إضافة إلى ذلك يمكن للكتب العظيمة أن تنشر رائحتها وتجعلك أسيراً لها. إن قدرة الكاتب على تصوير حياة أبطاله والجو الذي يعيشون فيه، تجبرنا على الدخول إلى ذلك العالم السحري، فأنا شخصياً رسمتُ صورةً لبطل رواية «الجريمة والعقاب» راسكولنيكوف، وتمشيتُ معه في العتمة، وشاركتُه أفكارَه، واستمتعتُ معه برائحة المطر المنهمر. والحال كذلك مع كثير من الروايات الخالدة مثل: (آنا كارينينا، مئة عام من العزلة، خريف البطريارك، الحملة، حياة ماتفي كوجيمايكن، الغريب، الطاعون.. وغيرها)، فكل عمل عظيم قادر على أن يمنحك رائحة خاصة، وأن يريك عالماً لم تره من قبل».
وأسألُ الأستاذ زيدو لأكملَ سياقَ الحكايات: سوى رواية «العطر» الشهيرة، هل من أدبٍ (رواية، شِعر، نثر…) لفتَ دهشتَك إلى عالم الروائح الغريب؟
يبتسم ويجيبني: «قد تستغرب أنّي لم أقرأ رواية العطر لـ«زوسكيند» ربما بسبب شعبويّتها، أو لكثرة ما تم تبجيلها في الإعلام، لكن هناك رواية «تلك الرائحة» للمبدع المصري صنع الله ابراهيم، فالرائحة عندَه ارتبطت بالسجن والاعتقال وغرف التوقيف، وقد أبدع في وصف الدم الذي يلوث الأجساد والجدران بسبب عض البق والجوع، والعنف والانحراف الجنسي، ففضاء السجن عنده هو فضاء الروائح الكريهة والعفونة التي ستلاحق بطل الرواية حتى وهو خارج السجن. وهناك «رائحة الأنثى» للأديب الليبي أمين الزاوي، ورواية «تل اللحم» للعراقي نجم والي، لكن ثمة كتابات أخرى عن الرائحة تحيل إلى البهجة كما في قصص الأديبة السورية أنيسة عبود، والشاعر اللبناني الراحل جوزيف حرب الذي تفوح في كتاباته روائح الطيّون والزعتر البري والغار والبطم والزيتون والحبق».
في عالم الروائح…كلُّ شيء معقول!
مع كلمة الحبق، توقّفتُ للحظة عن الكتابة وعدتُ لأغرقَ في سحابة طِيبٍ من شتلات الحبق التي زرعتها أمّي فوق تراب جسدي وسقتْها بماءِ روحِها، لكنني سألت الأستاذة فاديا رستم عن علاقتها بالروائح في بلد اغترابها. تقول بتأثّر واضح: «للمصادفة الجميلة أنكَ سألتني وأنا أتواجد الآن في جزيرة سويدية معروفٌ أنها كانت مركزاً بحريّاً تجارياً زمنَ الڤايكنغ.. فيها آثار تشير إلى وجود أوانٍ من بلاد الفينيق وعملات ذهبية مكتوب عليها بالعربي. ميزةُ هذه الجزيرة أن حاراتِها مملوءةٌ بالورد الجوري الدمشقي، وفي حدائق منازلها لاحظت وجود عرائش العنب والتين والتوت الشامي فنسيتُ لوهلة أنني في السويد! استغربت وبدأت أفكر: أمِنَ المعقول أنَّ «الڤايكنغ» أو أحد أبناء عمومتهم عندما زاروا بلادنا وتبادلوا البضائع أحضروا معهم شتلاتٍ من بلادنا!؟ أو ربما جلبتْ بعض النساء المهاجرات في قوارب الڤايكنغ كـ«أسيرات حرب» حفناتٍ من تراب وغرسات بلادهنّ ليقاوِمْنَ الحنينَ إلى وطنهنّ! أليسَ وجود هذه الثمار والورود السوريّة في شمال الأرض يدلّ على أنّ سوريين حملوا عطورَ ذكرياتهم معهم ليتحمّلوا عناءَ الهجرة والاغتراب؟ كل شيء معقول»!