هل الفكر العربي خاضع للسياسة الثقافية والإعلامية؟

ستظل محنة الفكر العربي مثاراً لجدل يدور بلا توقف، وسوف تبقى المشكلة كما هي، إن لم ينظر إليها بوصفها مشكلة بنية مجتمع كامل، وقضية مصير أمة ومستقبلها.

أليس الفكر هو الهيكل الأساسي للحضارة في مختلف مظاهره؟ أليس هو منهجاً ونمط حياة؟ وهل بنية المجتمع بنية اقتصادية واجتماعية فقط مفرغة من البنية الإنسانية؟ وما الحضارة، حضارة أي أمة، هل هي ما تتمتع به من أكل ومتعة، وطائرات وسيارات، وثلاجات، وأجهزة فيديو، وتلفزيونات ملونة، أم هي أولاً قيم فكرية واجتماعية وأخلاق؟ هل تقوم الحضارة على علم وقيم أم على كمية المتع والسلع المستهلكة؟.

تساؤلات قد تفتح أمامنا بصيص ضوء على حقيقة واقعنا العربي الذي يتسم بضحالة الثقافة، وكثافة التخلف، نحن العرب كنا أمة تقود ثورة العقل والمنهج، عندما وقف (ابن خلدون) على قمة مسيرة الفكر العلمي المنهجي، والتقط الغرب المتخلف –حينذاك- الكرة من أيدينا، وأخذوا من ابن خلدون الفكر المنهجي ومن (الحسن بن الهيثم) المنهج التجريبي، ثم انتقلوا بالثورة المنهجية، إلى الثورة الصناعية حتى وصلوا اليوم إلى الثورة التكنولوجية، أما نحن العرب فقد تركنا ثورة المنهج وطريق العقل إلى ثورة الاستهلاك، وأصبحنا أمة تستهلك الحضارة التي ينتجها الغرب، أمة يلفها ستار كثيف من نزوات استهلاكية جنونية مفرطة، غابت معها التنمية الحقيقية، وسار نمط الاستهلاك مع رقم الكسب السريع وغابت عن الشباب قيمة التفكير والقراءة والإبداع، وأصبحت الجامعات جزءاً لا يتجزأ من مجتمع مختل، لم تعد الجامعات كما كانت الجزر الوارفة بالعلم والأخلاق، ما عمق عنصر الانحلال في الجسد العربي، إذاً من ذا الذي يختلف على أن الثقافة هي الهيكل الأساسي للحضارة في مختلف مظاهرها، وأنها نمط حياة يقوم على منهج، وأن المثقفين هم القاطرة التي تقود قطار الحضارة وتمضي به إلى المستقبل، فهم الصفوة من المفكرين والمبدعين الذين يقومون بترشيد المواطن وتكوينه عقلياً ووجدانياً، لذا فإن لب المشكلة التي يدور حولها الجدل هو غياب هذا كلّه.

إذا حاولنا تصوير واقعنا العربي الثقافي نجد أن الهوّة قد اتسعت بين المثقفين ومجتمعاتهم، وأن الفكر العربي يعيش اليوم العقدين الأخيرين، فبعد أن عاشت الأمة العربية مستوى من النهضة والثورة في الخمسينيات والستينيات، إذا بها في السبعينيات والثمانينيات وما بعدها تعيش تدهوراً شمل معظم الميادين، كانت انتكاسة هائلة عميقة تكاد تفقد الشباب أمله في المستقبل، الشباب الذي يعيش الحيرة والتخبّط، حيث انسدّت أمامه القنوات التي يستمد منها قيمه، بعد أن عاش مرحلة الكوارث التي أصابت الأمة العربية، فانكمش داخل تشتته القيمي، مفتقراً إلى المثل العليا، ليس هذا فحسب، بل إن المفكّرين المبدعين في كل قطر عربي على حدة، لا يستطيعون أن يوصلوا أصواتهم إلى الآذان العربية، إذ لا يعبر صوتهم إلى مسامع أبناء الوطن العربي، ومن ثم أصبح الفكر العربي خاضعاً للسيطرة الثقافية والإعلامية التي يفرضها العالم الصناعي المتقدّم، وهكذا حدث اختلاف في بنيتنا الإنسانية، نحن نعيش سنوات الطحن العربي، طحن القضية الفلسطينية والاحتلالات الأمريكية والصهيونية والتركية لبلادنا العربية، طحن العقل العربي، والمنهج العقلي، سنوات معاداة الثقافة واتساع الفراغ الفكري، فلم يظهر مبدعون جدد كما ظهر في الخمسينيات والستينيات، لم تظهر نجوم لامعة في سماء الإبداع العربي مثل (يوسف إدريس، صلاح عبد الصبور، عبد الوهاب البياتي، بدر شاكر السياب، نجيب محفوظ وسليمان العيسى) وغيرهم من عمالقة الفكر والعلم والأدب.

فقد خلقت الحروب والقهر معاً القلق والإحباط اللذين يحرّضان الإبداع، وفرق بين قلق أو توتر يخصب ويشغل الإبداع، وقلق أو توتر هو نتيجة للقهر والتسلل الفكري، فقد غابت العبقريات العربية التي تستمد من الخصائص العربية ومن معطيات الواقع ما يقوى على مقاومة التحديات التي تلتف حول الأمة العربية، وأخطرها التفرّد الثقافي، ورغم أننا أمة عربية تمثل مجموعة متميزة من الشعب العربي الذي تربطه عرى لا تنفصم من وحدة اللغة والتاريخ والحضارة والمصير المشترك، إلا أن مساحات واسعة باتت تفصل اليوم بين المثقفين في كل قطر عربي عن ثقافة الأقطار العربية الأخرى، وهي سلبية من سلبيات التبعية الثقافية، عمّقت السلبيات الأخرى العديدة، ومازال المثقف العربي متمزّق الكيان الحضاري بين مفاهيم غريبة عنه، أوروبية وأمريكية، تفصله عنها مساحات هائلة من التقدّم العلمي المنهجي، على الرغم من أنه يعيش الحضارة الغربية في الزمن الطبيعي نفسه، غير أن لكل ظاهرة أسبابها الموضوعية، فما لم يؤمن المثقفون الملتزمون بأن الوحدة بينهم ضرورة لمقاومة الحواجز التي تضعها الأنظمة العربية، والعقبات التي تقيمها والحساسيات التي لم تكن موجودة من قبل، فلا سبيل إلى الوصول إلى عقل عربي ذي منهج له قدرة على اتخاذ القرار، غير مستسلم لقرار وفكر الحكّام، وقادر على تحدي عوامل التبعية الخارجية، المحنة إذاً ليست محنة ثقافة أو مثقفين ولكنها محنة مجتمع بأكمله.

أكاديمي وكاتب عراقي

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار
إصابة أربعة مواطنين بانفجار لغم من مخلفات الإرهاب بدير الزور 5.8 مليارات ليرة تعويضات مزارعي التفاح بسبب البرَد في حمص 10 مهن مهددة بالاندثار بسبب الذكاء الاصطناعي.. منها الإنتاج والإعلام والنقل والصحة والقانون والتكنولوجيا من باب تشجيع المزارعين.. هل تتسوق «الأعلاف» الذرة الصفراء من زارعيها بدلاً من استيرادها بالقطع الأجنبي أو عن طريق التجار؟ الضفة الغربية تُعيد الصراع إلى جذوره.. تصدٍّ للاحتلال وتصعيد في العمل المقاوم.. الكيان أمام تحدٍّ خطر والكوارث تتفاقم أسعارها أخرجتها من قائمة المأكولات الشعبية.. المعجنات تسجل ارتفاعاً جديداً بحجة أسعار المواد الأولية تجفيف الخضار.. خيار ربّة المنزل لمؤونة الشتاء في ظل الانقطاع الطويل للكهرباء اليوم بدء صرف المستحقات المالية للمزارعين المتضررين في طرطوس ضمن إجراءات تحويله إلى مشفى.. «صحة الحسكة» تستعد للبدء بإعادة تأهيل الطابق الثالث في المركز الطبي بالمدينة «ورطة» الهدية في المناسبات.. أشخاص يقاطعون أقاربهم لعدم قدرتهم على أدائها وآخرون جابهوا واستمروا في علاقاتهم