«ملف تشرين».. الصين تقلب طاولة الـ«ناتو».. أميركا لن تتردد في حلّ الحلف
تشرين- د . رحيم هادي الشمخي:
لماذا تريد (أو قد) تستغني الولايات المتحدة عن حلف شمال الأطلسي «ناتو»؟
السؤال ليس بجديد.. أميركا أرسلت للأوروبيين رسائل، أقل ما يُقال فيها، أنها فجة في الوضوح والمباشرة، خصوصاً في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.. ورد الأوروبيون بالمزيد من التبعية (والانتحار اقتصادياً وسياسياً) في سبيل أن تمتنع أميركا عن دفن الناتو (ودفنهم معه) ولكن هذا لم ولن ينفعهم، لماذا؟.. لأن المسألة لا تتعلق بالأوروبيين، أو هي لم تعد تتعلق بهم بصورة أساسية، لقد انتهى ذلك الزمن الذي كان فيه الأوروبيون يمثلون ضفة العالم- الأميركية – الثانية، نفوذهم من نفوذها، وأمنهم من أمنها. بالنسبة لأميركا انتهت وظيفة الأوروبيين، وبات الناتو لزوم ما لا يلزم.
كان يُفترض أن ينتهي الناتو، كتكتل دفاعي عسكري، مع انهيار الاتحاد السوفييتي (وزوال حلف وارسو) في بداية تسعينيات العقد الماضي، لكن الحلف استمر، لأن أميركا ارتأت أنه من المبكر وضعه خارج الخدمة، ما زال عليها ترتيب عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي، والتأكد من أنه لن تقوم لروسيا قائمة مجدداً.
الصين دخلت دائرة التركيز الشديد الأميركي/الأطلسي منذ عام 2022 عندما أصدر الناتو «مفهومه الإستراتيجي» وحدد الصين كـ«تحدٍ ممنهج»
وفيما كان كل التركيز على روسيا طوال عقد التسعينيات، برزت الصين قوة ضاربة وفي غفلة من واشنطن التي استمرت في مراقبة قوة الصين تتسع طولاً وعرضاً من دون أن تستطع فعل شيء.. وما كان ينقصها سوى ذلك التقارب (التحالف) بين روسيا والصين لتكتمل الكارثة. باتت الصين في كل مكان، كلّ شيء يبدأ منها وينتهي إليها، وبات لزاماً على أميركا تغيير كامل السياسات والأحلاف والتحالفات من أوروبا.. إلى آسيا. اليوم تحتاج واشنطن لـ«ضفة» عالمية آسيوية لتطويق الصين قبل أن يكتمل طوق الصين على العالم.
أمس الأربعاء، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أنّ الرئيس الأميركي جو بايدن وافق في آذار الماضي على خطة إستراتيجية نووية شديدة السرية تعيد لأول مرة توجيه إستراتيجية الردع الأميركية باتجاه الصين، والتركيز على ما تسميه واشنطن جهود بكين المستمرة لتوسيع ترسانتها النووية. وحفاظاً على السرية المطلقة فإنه لا توجد نسخة إلكترونية منها، بل تمّ توزيع عدد قليل من النسخ الورقية على عدد محدود من المسؤولين في الأمن القومي وقادة وزارة الدفاع (البنتاغون).
في قمة الناتو الأخيرة التي انعقدت في واشنطن في تموز الماضي (وكان الحضور الآسيوي فيها بارزاً) حيث تم الاحتفال بـ75 عاماً على تأسيس الناتو رغم كل المخاوف والشكوك والقلق الذي يسيطر على ضفتي الأطلسي، الأوروبية تحديداً، حيال مستقبل مجهول ينتظر الحلف..
.. في هذه القمة طغت الصين بحضورها، حتى على أوكرانيا (وعلى الانقسامات العميقة جداً والخطيرة داخل الحلف) وتم استخدام لغة وصفت بالأقوى ضد الصين، حيث ركز البيان الختامي على اعتبارها التهديد الأكبر والأول، ووصفها بأنها «عامل تمكين حاسم» في دعم روسيا عسكرياً ضد أوكرانيا (أي ضد دول الناتو مجتمعة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية).
وعملياً فإن الصين دخلت دائرة التركيز الشديد الأميركي والأطلسي منذ عام 2022 عندما أصدر الناتو «مفهومه الإستراتيجي» وحدد الصين على أنها تمثل «تحدياً ممنهجاً». ومنذ ذلك الوقت يجري التوجه بصورة أساسية نحو تطويق الصين خصوصاً في المحيطين الهادي والهندي عبر توسيع العلاقات الإستراتيجية والعملياتية مع دول المنطقة، وعلى رأسها استراليا، اليابان، كوريا الجنوبية، ونيوزيلندا.. ثم توسيع الدائرة باتجاه الدول الأبعد وفي مقدمها الهند (وفيتنام والفلبين).
رغم ذلك، فإنّ الناتو غير متيقن من قدرته على «ردع» الصين، أو احتواء العلاقات سريعة التطور بينها وبين روسيا، باتجاه التحول نحو قطب عالمي غير قابل للرد أو الصد.. وعليه فإن أميركا، والناتو عموماً، يحضران لمستوى عالٍ من التصعيد مع الصين في المرحلة المقبلة.
هذا التوجه نحو آسيا، يطلق عليه المراقبون (تجاوزاً) بالناتو الآسيوي، لحين إيجاد تسميه أخرى مناسبة، وإن كانت التسمية مرتبطة بشكل أساسي بمستقبل حلف الناتو من جهة، وبتحديد إطار تعاون وتحالف رسمي ضمن وثيقة موحدة تضم الدول التي ستنضوي تحت سقف الناتو الآسيوي، من جهة أخرى.
طموحات الناتو الآسيوية تقيدها بشكل كبير حرب أوكرانيا لذلك هو يتلقى انتقادات حادة لناحية توجيه بوصلته نحو آسيا في وقت تشتعل فيه ضفته الأوروبية
لنذكر هنا بالقمة التي عقدت في آب من العام الماضي 2023 في منتجع كامب ديفيد الأميركي، والتي ضمت كوريا الجنوبية واليابان (وأميركا طبعاً) وجرى خلالها بحث توسيع التعاون في الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ الباليستية، إضافة إلى إنشاء خط اتصال مباشر بين الدول الثلاث.
وقيل حينها إنّ هذه القمة هي استكمال لمسار تكتل «أوكوس» العسكري الذي أسسته أميركا في عام 2021 مع كل من استراليا وبريطانيا، وتحضيراً لدمج كوريا الجنوبية واليابان مع «أوكوس» لإعادة صياغة نظام التفاعل بين دول منطقة آسيا والمحيط الهادئ.. وليس خافياً أنّ الهدف النهائي هو تطويق الصين.
هذا يعني أنّ منطقة المحيطين الهادي والهندي مقبلة على تفاقم في التوترات، وبعيداً عن الصين التي تؤكد حقها في الرد والدفاع، فإن دول المنطقة (التي هي خارج التحالفات الأميركية) ستنظر إلى أي هيكل أمني رسمي بين أميركا/الناتو، وبين الدول آنفة الذكر، على أنه استفزاز غربي متصاعد، وليس تحالفاً دفاعياً كما تدّعي أميركا.. وأن الهدف هو الصين وليس حماية المنطقة.
أما دول جنوب شرق آسيا (آسيان) فمواقفها معلنة حيال رفض توسع الناتو في المنطقة، فدول مثل أندونيسيا أو ماليزيا ستعارض بشدة كل ما من شأنه زيادة التوترات بين دول آسيان، رغم أنه حتى الآن لم يقترب الناتو من أي منها.
ورغم ما يبدو عليه الحال من سلاسة في مسألة التحالفات التي تقيمها أميركا مع دول رئيسة في منطقة المحيطين الهادي والهندي إلّا أنّ لا شيء مضموناً لناحية إمكانية التأثير في ميزان القوى، أو تجاوز التوترات الإقليمية التي لا بدّ ستؤثر على أي تحالف أميركي/أطلسي مع دول المنطقة.
لكن طموحات الناتو الآسيوية تقيدها بشكل كبير، حرب أوكراينا، والأزمة مع روسيا، لذلك يتلقى الناتو انتقادات حادة لناحية توجيه بوصلته نحو آسيا في وقت تشتعل فيه ضفته الأوروبية. لكن أميركا تبرر التوجه نحو آسيا بزعم أنها تدخل ضمن المخاطر والتأثير سلبياً على أمن أوروبا.. وحتى المواجهة مع الصين تقدمها أميركا على أنها جزء من الأمن الأوروبي/الأطلسي.
هذا يعني أنّ التمدد آسيوياً بات ضرورة وجودية قسرية من وجهة النظر الأميركية/الأطلسية، ما دامت الصين تهديد وجودي قائم، وطالما هي كذلك فلن تتردد أميركا في تفجير كامل المنطقة وصولاً إلى القضاء على هذا التهديد.. ولن تتردد في التخلي عن ضفتها الأوروبية (وحل الحلف) إذا ما وجدت أنها ستشكل عائقاً خطيراً في عملية «ردع» الصين، وهذا يضع الناتو في قلب التهديد الأميركي (وليس في قلب التهديد الروسي).
أكاديمي وكاتب عراقي
أقرأ أيضاً: