«الاستعراض الأخير».. قارَبَ عروضَ «الميوزيكال» العالمية لولا رتابة النصف الأول!
كادتْ رتابةُ النصف الأول من «الاستعراض الأخير/ The Last Show»، الذي قدّمه طلاب وخريجو قسم الرقص في المعهد العالي للفنون المسرحية، أنْ تجعلنا نغادر القاعة لولا المشهدين الأخيرين اللذين عوّضا عمّا ضيّعوه من حماسةٍ وحيويةٍ تعودّناها منهم في عروضهم السابقة.
إذ اشتغل مخرج العرض ومؤلّفه الأستاذ معتز ملاطية لي على «المسرح داخل المسرح» أو «العرض داخل العرض» بانياً مشاهِدَه على فكرة وجود مجموعة راقصة تتدرّب وتُجري «بروفاتها» من أجل «الاستعراض الأخير» المُفتَرَض كمحصّلة للجهود التي يبذلونها في سبيل هدفهم النبيل وغايتهم الأخيرة!.
لكن البرود والتكرار سيطرا على المشاهد «التمثيلية» تلك، إذ حتى لو كان المقصود هو إظهار أنّ أولئك الراقصين يقومون بالإحماء ويعانون – كما يعانون في الواقع فعلاً – من قسوة التمارين الجسدية والتدريبات النفسية التي يعانيها الراقصون عادةً قبل ومع كل عرض، بل من الإنهاك والرضوض الشديدة والكسور الخطيرة والصعبة .. إلا أنّ أداء الراقصين قُدِّمَ لنا بعدّة شوائب أطاحت جمالية الفكرة الأعمق التي يختزنها العرض؛ أي تقديم التحية «من الراقصين وإلى الراقصين في كل مكان» أو التحية إلى جوهر فكرة «الرقص في الحياة» بكونه ابتهاجاً بالجسد وإعلاءً من قيمته بوصفه الصَّدَفَة التي تختزنُ الروحَ هذه الجوهرة الثمينة ولأنّ الجسدَ هو التمظهرُ الملموسُ لجمالِ الإنسان الداخلي وبالتالي جمالياتِ أرواح الراقصين.
فلا يعني أبداً إِنْ كان هناك تدريباتٌ «مُمسرحَةٌ» أنْ نشعرَ بالملل كما لو أننا نشاهدهم يتدربون في الكواليس أو في قاعات الدروس، فهُم ضيّعوا التزامنية في حركاتهم والتوافقات والحركات المتقابلة بدقّة، بل تكررت هذه المثلبة في مشاهد لا لزوم لها أضعفت من زخمِ عرضٍ يفترض أنه «يُشرقط» ويتوهّج بنور الأجساد وكيمياء الأنفاس.
مشاهدُ غير مُتقنة مثل «فقرة الخيّاط» التي بدأت بثلاث منصات تموضَعَ عليها ثلاثة شخوص أحدُهم «مانيكان»، في لعبةٍ متوقعةٍ بأنه سيتحول إلى راقصٍ حيٍّ يتشاركُ مع الاثنين الآخرَيْن؛ حركاتٌ متكسِّرةٌ ميكانيكيةٌ من راقصين حاولوا جهدهم لأداء هذا النوع الفريد لكنهم سرعان ما “تشربكوا” بـ«رولاتٍ» قماشية ممتدة على طول الخشبة انبثقت لتوحي ربما ببحرٍ متلاطمٍ في رمزيةٍ إلى الخيال الحالم لمصمّمي الأزياء أو إلى الهواجس التي تنتابهم .. هكذا بدا الراقصون الثلاثة كمن وقعوا في مصيدة غير عارفين أين يذهبون بأجسادهم وسْطَ هذه اللفافات القماشية!
وقبل ذلك كان هناك مشهدٌ يُظهِرُ تدريبات الراقصين على فقرة “باليه” لم نعرف المقصود منها ضمن عرضٍ ينتمي إلى عوالم “رقص الجاز”، وتلا ذلك حضورُ ثلاثة عازفين اعتلوا تلك المنصات الثلاث نفسها مكان “المانيكانات” مؤدين فقرةً موسيقيةً (إعداد وتأليف سيمون مريش) حيث يمكن القول إن الموسيقا لعبت دور البطولة الحاملة لأجواء العرض كلّه بالتضافر مع منفّذ الصوت المميز نضال قسطون.
ثم وصلنا إلى مشهدٍ توقعنا أنه سيكون نقطة تحوّلٍ حاسمة أو انعطافة إيجابية حيث سنشهدُ معركةَ رمزية لأجسادٍ متلاطمة بين مجموعتي الراقصين: مجموعة أولى بقيادة من يمثّل دور المُخرج (يؤديه الممثل يحيى بيازي الذي قدّم فقرتين إفراديّتين برعَ في إحداهما؛ تلك التي يتوهّج فيها جسدُهُ كما لو أنّه في مخاضِ التجربة أو في جحيم التفكير بمآلات عرضه المنتظر، ثم فقرة ثانية يستفيدُ فيها من وجود الدّرج كقطعة سينوغرافية – إعداد غيث المحمود – خدمت الفكرة الجمالية المنشودة) والمجموعة الثانية بقيادة مدرّب الرقص (أدّى دوره المدرّب حمّود شباط والذي كان من المفترض أن يحافظ على جسده كراقصٍ محترفٍ ومدرّب واقعي لكنه بدى للمفارقة أقلّ الراقصين رشاقةً!)..
إذاً.. تخامدت هذه الفقرة فوراً وانتهتْ إلى كونها أيضاً مشهداً تمثيلياً يُكرّر التدريبات ذاتها بدلاً من استثمارها فنّياً وجمالياً.
ثم لحسن الحظ بعد أن شاهدنا كيف تعرّض المخرج إلى حادثٍ أليمٍ عبر شاشة سينمائية، في إحالةٍ مهمة وحقيقية إلى ما يُقدّمه مخرجو عروضاً كهذه من تضحياتٍ وتعبٍ بل ما يقدّمونه من هناءة بالهم وسلامة أجساهم ليحيا “المسرحُ الراقصُ” وكرمى لفكرة الاستمرار رغم الصعوبات.. وصلنا إلى المشهدين الأخيرين أي إلى ما يشكّل “الاستعراض الأخير” ببهرجة الأضواء الاحتفالية وأزيائه الكرنفالية والسينوغرافيا المشغولة بذكاء.. وهكذا كما لو أننا أمام أحد المشاهد الساحرة من أفلام “الميوزيكال” العالمية مثل (Burlesque أو Chicago أو Nine) لأن راقصينا توهّجوا مثل كتلة نار مشتعلة بالحيوية، باتّساقٍ كريوغرافي مميز في ارتفاعهم وانخفاضهم وشُغْلهم لمساحة الخشبة مع وجود مستويين في ديكور المشهد ما أضاف استثماراً ذكيّاً لفضاء المكان يوحي كما لو أننا داخل فقاعةٍ سحريةٍ ملوّنةٍ، فيما الإيقاعات الساخنة الحماسية تجعلنا نتقافز في مكاننا راغبين بالانضمام إلى الراقصين، ومنغمسين في بحر الأجساد المتدفقة وأمواجها الهدّارة، تاركين أحمالنا وأثقال أرواحنا خلفنا كما عوّدنا أن نفعل دائماً طلابُ قسم الرقص بإشراف الأستاذ معتز ملاطية لي نفسه (وإشراف المدربين الآخرين كلّهم) سواء في مختبرات التخرّج أو العروض التي قدّموها بمناسبات عديدة مثل يوم الرقص العالمي ويوم المسرح العالمي، لأنهم هكذا عوّدونا أن يكونوا مثل نجومٍ مضيئة في عتمة الأيام الكالحة!.