«مُخايلون سوريون».. شخصياتٌ «كركوزية» بنكهة اليوميّات ..!
«لأنو نحنا ضحكة الناس وفرحهن، لأنو نحنا ذاكرتهن وحكاياتهن، قوم يا كركوز قوم بعدك نايم، العالم حضرانة ليشوفونا وأنتَ بعدك نايمممم… قووووم».
بهذه الكلمات واللهجة العامية السورية التي يقولها «عيواظ» لـ«كركوز» يبدأ عرض «مُخايلون سوريون» الذي أقامته الأمانة السورية للتنمية، أمس في دار الأوبرا بدمشق، بمناسبة تأسيس أول فريق سوري من مُحرّكي دمى خيال الظل باسم «فريق ظلال» وضمن احتفالية وزارة الثقافة بيوم المسرح العالمي.
عشرون متدرّباً خاضوا ورشاتِ استمرت ثلاثة شهور ليتمكنوا من فنون إلقاء الأصوات التي يتطلبها هذا النوع من المسرح، وصناعة أربع وعشرين دمية جلدية وكرتونية مع طريقة تحريكها، وكتابةِ الكلام التي ستنطقه تلك الشخصيات من خلف ستارةٍ قماشيةٍ، حيث يُسلّط على تلك الدمى ضوءٌ ضمن قاعة مظلمة فتنعكس ظلالها على الستارة الشفافة بما يجعلها تبدو مثل ممثلين يتقمصون أدوارهم.
ميزةُ المشروع/ الفكرة بشكل أساسي هي المحافظة على «مسرح خيال الظل» أحد عناصر التراث الثقافي اللامادي السوري الذي تم ترشيحه ليُدرَج على قوائم الصون العاجل في منظمة اليونيسكو سنة 2018 وهو – حسب مؤرخي التراث الشعبي وبالإضافة إلى الحكواتي- أكثر الفنون الشعبية انتشاراً بين السوريين واللبنانيين والمصريين.
وقوامُ العرض الذي قدّمه المُخايلون الشباب هو بثٌّ تجريبيٌّ لـ«محطة ظلال التلفزيونية» المُفتَرَضة، ابتدأته «نرجس»/ مذيعة تتنمَّرُ على ضيفتها بسبب بدانتها وشكلها وهذا ما جعلها هي أيضاً عرضة للتنمر من الضيفة ولتنبيهٍ قادمٍ على شكل صوتٍ من مدير المحطة.
بدايةٌ باهتة نوعاً ما، لكنّ المَشاهِدَ المتلاحقة حسّنت من مزاج العرض بوصفه ينتمي إلى عوالم المسرح الشعبي وأجوائه من شخصياتٍ عامّية نصادفها في حياتنا اليومية وتفاصيلها المَعيشة.
منها مشهدُ «الستّ بديعة» البخيلة و«أولُون/ أخطبوط البحار»، ونقُّها وتذمّرها من الأوضاع المعيشية وعدم توفر حاجات الناس وكيف أنها تشمّ رائحة شواء فيما هي يا حسرتها لا تملك لقمة في منزلها.. وفيما يحاول الجارُ المتنكر على شكل أخطبوط (من غير أن نفهم السبب) ثَنْيها عن الشتائم والسلبية في كلامها ويخبرها بأنّ رائحة الطعام من بيته هو وأنّ لها حصة منه.. تُغيّرُ كلامَها وشتائِمَها وتُنهي حديثها بـ«لنروح نشمشم بقية الحارة بلكي مندبّر عشانا اليوم»!
ثم هناك مشهد حوار المذيع مع «الفلاح أبو جميل»، بدا فيه شيء من خلل في قياسات الدمى الجلدية أو في خيالاتها المنعكسة على الستارة، إذْ ظهرَ المذيعُ أكبر بثلاث مرات من حجم الفلاح الذي تحدَّثَ عن معاناة الفلاحين وصعوبات العمل في الأرض وأنهى حديثه للمذيع بـ«موّال سبعاوي» هو من حيث فكرة وجوده ضمن المشهد جميل جداً ومميز لكنه كان للأسف غيرَ موزونٍ وغيرَ مدروس، قاله المُخايل كما يلي: «عَنّوا عالبال يابا أهلي وخلّاني/ يابا ذكرت ربعي وخلّاني/ بكيت عيوني دمع عفراق خلاني/ يا عين صبّي الدمع عاللي نووا يجفون.. أنا وصّيت أهل الحزن عفراقهن يبكون.. أنا شو سوّيت حتى حبابي يجفون/ بحر الحزن ما بيني وبين خلاني».. وكان الأجمل والأنسب أن يستعينوا بموّال سبعاوي حقيقي من المواويل السورية الحلبية وهي مدرسة تراثية بحدّ ذاتها ويمكن أن توظّف كقالب موسيقي شعبي مؤثر في هذا النوع من المسرح. ثم كان مشهد السيّد كامل (وهو من أجود أصوات المخايلين كخامة صوت ولفظ) «المستقيم كالسطر ولا يحبّ الطُرق الملتوية.. يحترم الوقت ويتمنى على مشاهديه احترامه أيضاً ولبس الكمامة أو الالتزام بالتباعد المكاني».
ورغم الطُرف أو الحوارات الطريفة التي تقولها الشخصيات وتشكّل قوام هذا الفن الشعبي «خيال الظل» أو رغم أنّ مِن أساسيات منطوق الشخصيات «الكركوزية والعيواظية» أن تكونَ مضحكة للجمهور، لكن لم نعرف لماذا اختار المُخايلون أن تكون كل نماذج الإعلاميين في تلك المحطة المفترضة هي شخصيات هزلية، متنمّرة، قامعة، منشغلة بكبريائها الفارغ وتستدعي لنفسها اللوم والتقريع من صوت المدير المفترض من دون تقديم أي نموذج إيجابي حتى لو بدا مضحكاً حينها لا بأس!
تستوقفنا استراحة قصيرة نستمع فيها إلى موسيقا من تأليف المايسترو عدنان فتح الله بعنوان «عاطفة» أدّاها باحترافية كل من عازف القانون علاء العبد الله وعازف الإيقاع مازن حمزة، بينما كنا نشاهد على شاشة عرض شريطَ فيديو يعرض لنا نماذج من أعمال تراثية ورسومات شعبية لشخصيات حكائية معروفة مثل عنترة بن شداد أو الملكة بدور ورسومات لأحصنة وغزلان وزخارف نباتية للغابة التي يدخلها بطل الحكايات ويحارب فيها السِباع ويغلبها.. مع صورة تمثل المقهى الشعبي السوري أيام زمان.
ثم تتابعُ المَشاهدُ الطريفة وها هو المذيع يحاور «أبو صفنة» السهيان المشغول دائماً بموبايله وبلعبة «الببجي» ومشاهدة مسلسل سخيف اسمه «بوشنكي»، ثم نرى «المذيعة جوريّة» تُحاور «أم عجقة الحلبية» الظريفة بلهجتها وحديثها وهضامتها لكنها تبقى «معجوقة» ومستعجلة وتريد أن تعمل عشرة أشياء في الوقت ذاته ناسيةً أنها على الهواء مباشرة.
وهكذا ورغم تفاوت أداء المُخايلين سواء لجهة موضوع الحكاية/ المَشهد أو أصوات الشباب والصبايا، أو قياسات الدمى وظلالها على الستارة والتي لا نعرف إن كان ذلك مقصوداً أو من خَلَلٍ ما في «سبوتات» الإضاءة أو في طريقة تحريك العِصيّ الممسكة بالدمى.. إلا أن طرافة بعض المشاهد تنسينا ذاك الخلل الطفيف بكونها تجربة أولى أبدع فيها كل من شارك وصمّم ونفّذ ودرّب وعرض.
وهكذا يأتينا «أبو لمعي» الجشع صاحب المكتب العقاري وهو يصيح ويعرض خدماته على شابٍ فقير يريد غرفة للإيجار فيقول له: «أنا أبو لمعي.. بلمّعلكْ حياتكْ بس فرجيني مِصرياتكْ…مصاري… كلّو بالمصاري»!
وبعد ذلك مشهدان طريفان للمذيع «رضا» مع الآنسة «ضوجة» التي تعمل في توصيل طلبات مطعم شعارُه «كل شي عنّا/ كول وتتهنّى»، ومشهد «الأم التي تلثغ بحرف الراء وابنتها مُحِبّة الأزياء والماكياجات وأحدث صرعات الموضة.. وكان مشهداً موفّقاً أيضاً لجهة صوت الصبية المُخايلة وأدائها الجيد في ارتفاع وانخفاض الصوت وتغيير شكل النطق المميز.
لنصل إلى نهاية العرض مع عودة إلى «كركوز» و«عيواظۚ» وهما يَعِدان الجمهور بـ«مزيد من الشخصيات المسرحية والعروض اللي بتشبهنا بكل تفاصيلها السوريّة.. عاشت سورية وعاش الفنّ فيها».
مع لقطة ختام «درامية» للاحتفالية بموسيقا «نشيد موطني» وظهورٍ أخير لكلّ شخصيات خيال الظل التي أبدعها «المخايلون السوريون»، فيما ظلالهم كانت على قماشة العرض المسرحي مثل حكايةٍ لا تنتهي.
تصوير: عبد الرحمن صقر