الفرقة الوطنية للموسيقا العربية تهدهِدنا على إيقاعات “النغم البليغ” ..!
أنغمس في نهر النغم البليغ قادماً من أقاصي أوجاعي، هارباً من فخّ الواقعي خارج دار الأوبرا، لاجئاً إلى أحضان الموسيقا، لا يضيرني أن أنحني لجلالها لأصبحَ ورداً وأعلى.
أنكتبُ نوتاتٍ، أتجمّعُ لحناً، أتفرّقُ نجوماً… هكذا كما تأمر السيدة الموسيقا كما يطيع الجسد الجَموح!
وهكذا بمقدمة أغنية “ألف ليلة وليلة” ابتدأتْ أمس “الفرقة الوطنية السورية للموسيقا العربية” أمسيتها الجديدة المعنونة بـ”النغم البليغ” تحية للراحل بليغ حمدي “ملك الموسيقا، المجنون، العبقري”، إحدى معجزات الموسيقا العربية ومورّث جينات البهاء لأجيال من الموسيقيين والناس بعده.
المقدمة التي قال عنها بليغ “إنها من أجمل ما لحن وأقربها إلى فِكره الموسيقي أو إلى الأفكار الموسيقية التي تقصّد نسجها ضمن خيوطها اللحنية”.
المقدمة ضمت تفريدات قصيرة هي جزء لا يمكن أبداً تجاهله أو التقليل من ضرورته قدمها عازفوا الفرقة الذين يثبتون في كل مرة أنهم أساتذة النغم بقيادة المايسترو عدنان فتح الله ومنهم على الأوكورديون /وسام الشاعر، والقانون/حكم خالد، ومنهم على الغيتار بيس، وكذلك على الساكسوفون رغم بعض ما شابَ أداء عازفه من هنّات أو تغييرات طفيفة خاصة في تفريدته الأخيرة التي تسبق الدخول في الغناء؛ عَرَجٌ طفيفٌ قلّل من جماليات وذكاء استخدام هذه الآلة الغربية في لحن مغرق في شرقيته وروحه الشعبية المرحة.
ولا بد هنا من الإشادة بعازفتي آلة الكونترباص/ سريرُ النغم الذي تتهادى عليه أمواج أصوات الآلات كلها والذي ينسى الجمهور عادة أهمية وجمالية وجود هذه الآلة لكنه يشعر بها مثل قطعة سكر ذائبة في كأس شاي!
لكن الفرقة عموماً تؤدي باحترافية عالية وطاغية على أداء المغنين، وفي هذا ميزة لها على حساب المغنين الطلاب، وربما فيها شيء من “هفوة” في الاختيار الأساس للمغنين، رغم فهمنا وتفهمنا أنه لا يمكن بأية حال المقارنة بين “أساطير المَغنى” مثل أم كلثوم وميادة الحناوي ووردة الجزائرية وعبد الحليم حافظ هؤلاء الكواكب المضيئة التي تلألأت في سماوات الفن بالكاريزما المميزة لكل منهم وبالحضور العاصف مع كل حركة من حركاتهم وكل حِلية صوت يُنكّهون بها أصواتهم وكل حكاية مخبوءة من حكايات حياتهم والتي كانت سبباً في ظهور أغانيهم… وبين مغني أمسيتنا هذه؛ الذين لهذه الأسباب كان عليهم أن يتمكنوا ليس فقط من حُسن أدائهم ودقته الأكاديمية (وهو ما فعلوه وهذا أقل الواجب بطبيعة الحال) بل على الأثر الذي سيتركونه من خلال شكل حضورهم وزخم أدائهم أو إن صح التعبير بالدم الحار الذي كان عليهم أن يضخّوه في عروق المقطوعات المؤداة.
لكنهم رغم صعوبة ما هم فيه من امتحان (فكل ظهور جديد على الخشبة هو امتحان أصعب من امتحاناتهم الدراسية) تألقوا شيئاً فشيئاً صعوداً مع تتابع “كوبليهات” الأغاني، كما لو أنهم كسروا برودة الخوف ورهبة الدخول، ثم أطلقوا أصواتهم أعلى وأحلى في الجوابات، وربما لم يسعفهم قصر الوقت وتلاحق برنامج الأمسية في أن يندمجوا حتى آخر السلطنة فينسون العالم المُربِك من حولهم ويغرقون بكلّيتهم في النغم البليغ!
هكذا أجادت لبنى نفّاع في “الحب اللي كان” للفنانة ميادة الحناوي التي لحسن حظنا وحظ التاريخ حظيتْ بألحان العبقري بليغ حمدي.
ثم وللمفارقة ورغم أن خامة صوتها برأينا أقرب إلى خامة نجاة الصغيرة ورغم أدائها الأنضج في هذه الأمسية مقارنة مع أداءاتها السابقة إلا أن الاختيار وقع على إليسار السعيد لتؤدي “العيون السود” فظُلمَتْ مقارنة مع فخامة وضخامة صوت الراحلة وردة الجزائرية التي تغني كأن مرجلاً يسكن حنجرتها.
وفي حين شابهت خامة صوت الخريجة سيلفي سليمان طبيعة صوت الفنانة ميادة الحناوي في بعض المطارح وقع الاختيار عليها لتؤدي “بعيد عنك” فكانت – مع كل محبتنا – متواضعة الأداء رغم تحايلها الإيجابي لإظهار إمكانياتها في الجوابات العالية.
فيما امتلك ريان جريرة المسرح منذ صدَح صوتُه بـ “سوااااح” وألِفها الممتدة كأننا فعلاً نجوب البلاد معها: “سواااح وماشي في البلاد سواح. والخطوة بيني وبين حبيبي براااح”، لأنه بالإضافة لقوة صوته أجاد في تلوينه بعُرَبٍ سريعة متقنة ثم لا يلبث أن يعود إلى خط اللحن دون أن نشعر بأي شائبة لحنية.
كما وصلتْ بين جواهر عِقْد هذه الأمسية فواصلُ تضمنت مقاطع صوتية أو مصورة لبليغ حمدي وهو يغني شيئاً من الحب اللي كان وبعيد عنك أو يتحدث عن ذكاء العندليب الأسمر عِبر كل انتقاءاته ومسيرة حياته أو عن إصرار كوكب الشرق أم كلثوم على إبقاء مقدمة ألف ليلة وليلة طويلة كما هي دون اختصار معللة ذلك “بأنها تستغرق زمن المقدمة الطويل هذا في جعل جسدها يهدأ من رهبة المسرح وجعل قدميها تتوازنان أمام الجمهور المهول”!
في كل حفلات دار الأوبرا السورية سواء كان النغم بليغاً أو خفيفاً أو سيمفونياً أو جازاً أو أغنياتٍ لشارات مسلسلات الأطفال الكرتونية أو موسيقى الحجرة تأسرني الألحان وتحنّ
المقامات إلى المقامات، يئنُّ قوسٌ على كمانه، ويحنُّ وترٌ على عوده، تجنُّ الأصابعُ على البيانو….وتزغردُ الإيقاعات.