كنتُ في ورشة «الإبداع الأدبي» لأطفال تراوحت أعمارهم بين الحادية عشرة والخامسة عشرة، أتقصّى الوجوه كالعادة وأسجّل الأسماء لأحفظها من دون لفت انتباههم لأوحي لهم حين مخاطبتهم بأن المعرفة قديمة والألفة عميقة، فلفتت انتباهي طفلة تنحّت عن المجموعة متّخذة مقعداً منفرداً لجلستها المعترضة بين المسند الخلفي وطاولته الصغيرة التي وضعت عليها جهاز «اللابتوب»، ولم تتوقّف عن الحركة في تربيت شعرها المعقوص تحت قبَّعة سوداء بزرٍّ كبير في أعلاها، أو إعادة تموضع جهاز اللابتوب، ثم سحب القلم من محفظتها وإعادته إلى مكانه! بعد لحظات لم يفُتني أن الطفلة تتشبّه بالصّبيان في مظهرها وطريقة كلامها وحركاتها، وإذ شئت اكتشاف علاقتها بما وراء الجهاز الذي تحمله، طلبت منها البحثَ في موضوعٍ يهمُّ المشاركين في الورشة، فاختارت «عبدة الشيطان»، وفي دهشة الأطفال التي تصاعدت همساً ولغَطاً وضحكاً مكتوماً، أثنيتُ على خيارها، قائلةً: إنه من الضّروري أن نعرف ماذا يجري حولنا في العالم، لأن شبابيكنا باتت مفتوحةً رغماً عنا! هدأ الجوّ وسادَ الإصغاء الفضوليّ إلى موضوعٍ لم يخطر ببالي أن يُطرح في مثل هذه المناسبة، وسريعاً كانت المتحدّثة تعرض المعلومات والصّور لوجوهٍ شوّهتها الوشوم والمعادن التي تخترق الأنوف والشّفاه والآذان، وأنا أتحقق من السّعادة التي تخالط نبرة صوتها! وحين آن وقت الأسئلة واستبطان المشاعر التي أثارتها المعلومات بين المشاركين، راعني أن الطفلة قالت بكل ثقة وتعالٍ: أحترمهم وأتفهم معتقداتهم لأنهم أحرار فيما يعتنقون ولا يؤذون أحداً!
من علّمك هذا يا صغيرتي؟ ولماذا لم يقل لك إن الحرية لا تعني الشّذوذ، ولا تقبُّل كلّ ما يجتاحنا بحُكم أنه حاصلٌ واقعيّ؟ لماذا لم يوضح لك أن «العقيدة» هي مرشد السلوك؟ ومن «منظومات» الفكر كان القتل والإرهاب والاستهانة بالرّوح الإنسانيّة؟
وخرج سؤالي المنطقي: في بيتكم مكتبة؟ كنت أهدف إلى استكشاف العائلة التي تعيش في كنفها، وفاجأتني: مكتبة والدي كبيرة جداً، وأعتقد أنك تعرفينه، إنه الصحفي فلان!
استدار عتبي فوراً إلى ذلك الصحفي الذي يبشّر قرّاءه بالمعارف الجمّة التي قرأها، وبالموضوعات الثقافية التي يبرع فيها، وبخوضه في مثالب العولمة التي تعصف بمجتمعاتنا، وأقرب النّاس إليه متروكةٌ في عُرْض العولمة تتخبّط في عواصفها من دون أن تجد من يمسك بيدها لتعبر آمنةً، في دراستها وثقافتها، وإذا كان الصحفي ببابٍ مخلّع فما حال من تسير حياته على التّوكّل؟ وكيف نأمن في هذا العصر العاصف المضطرب على جيل منكود الحظّ بالصّراعات المعلنة، ونحن أهل الجغرافيا التاريخيّة المليئة بجروح الغزو والأطماع؟
قالت لإحدى رفيقاتها حين ختمنا جلسة الصّباح: غداً لن أرافقك لأنني سآتي على دراجتي التي اشتراها لي الوالد منذ أسبوع.
قالت الأخرى: شاهدتها! لها جرسٌ جميل. وتمنّيتُ في نفسي لو أن الأب يسمع آراء ابنته باهتمامٍ وتركيز، ليسمع جرس إنذار حقيقي يوقظه على مشاكل، هي مشاكل جيلٍ، ندّعي أنه أمانة في أعناقنا جميعاً.