كَتبَ الإبادة على هيئة قصائد.. الأديب أحمد الدريس: النقد المحكوم بالعلاقات الشخصيّة والانتفاعيّة لمّع العشرات من التجارب الخاويّة
تشرين- لبنى شاكر :
قبل أشهر فاز الشاعر والأديب الدكتور أحمد الدريس “1957 الحسكة” بجائزة العلّامة خير الدين الأسدي في إصدارها العاشر، لتوثيقه الإبادة المُقتَرفة بحق الأرمن في ديوانه “أيها الأرمني الجميل”، وهو كاتبٌ حاصلٌ على الماجستير في الدراسات الأدبية من جامعة حلب، والدكتوراه من الجامعة الأمريكية في القاهرة، تتزاحم في رصيده الدراسات والأبحاث والمقالات، إلى جانب مجموعة دواوين شعرية منها “رقصات امرأة الغجر” و”الولادة من خاصرة الموت”، عدا عن أنه شغل سابقاً عدة مناصب أبرزها مدير ثقافة الحسكة ورئيس فرع جمعية العاديات فيها أيضاً، ورغم هذا كلّه بقي اسمه بعيداً عن الإعلام، أو العكس كما يقول في حديثه لـ “تشرين”، ولهذا برأيه أسباب يُمكن مُلاحظتها على أرض الواقع، حاولنا رصدها في هذا اللقاء مع الإضاءة على تجربته عموماً.
كلّ تجربة تدور حول نفسها وتجترّ ذاتها.. لا بد أن تتآكل ثم تموت.. ففعل الكتابة الشعريّة إن لم يقدم إضافةً على مستوى الذات والعالم هو فعلٌ عبثيٌّ
* من يقرأ في مشوار الدكتور الدريس يجد غنىً واجتهاداً في ميادين أدبيّة منوّعة، لكنك اخترت الشعر، وتعدد إنتاجك فيه، فماذا تقول عن تجربتك في عوالم القصيدة؟
تنبثق تجربتي الشعريّة من قناعتي بأن للكلمة وهجها، وموقعها في سياق علاقة الشاعر الديناميّة مع الذّات ومع العالم، وقد بنيت هذه التجربة على هذه المعادلة “الذات والموضوع” انطلاقاً من أن الشعر يجعل العلاقة بين طرفيها علاقةً مُتحرّكةً دوماً، ووفق هذه المعادلة أطمح إلى أن تصبح القصيدة أكثر من ضرورة في الحياة، أريدها رئةً يتنفّس منها الشاعر ومن يتلقّى شعره.
وبعيداً عن الحذلقة اللفظيّة، فإنّ تجربتي تجسّد حالةً من الوعي الحاد بموقفي المشدود بيني وبين المتلقّي، انطلاقاً من إدراكي أنّ الشعر – ككل نتاجٍ فنيٍّ – هو تفريغٌ للشحنة الهائلة المتولّدة من تصادم الضدّين المتنافرين “السالب والموجب” بما يُختزل بالتجربة، فالشاعر يجب أن يبقى في قلب المعاناة، وأن يغوص في أعماق التجربة الحياتيّة، وأن يتوغّل في غمرة الأشياء، ولا يعني قولي عن التجربة الحياتيّة أن يكون الشاعر مُسجّلاً للظواهر والآلام فحسب، وإنّما عليه أن ينطلق إلى فضاء الحلم أيضاً، من خلال ما يملك من القوة الحدسيّة البدائيّة العصيّة على التفسير، وأن يمتلك حسّ التجديد والتطور، لأن كلّ تجربة تدور حول نفسها وتجترّ ذاتها، لا بد أن تتآكل ثم تموت، ففعل الكتابة الشعريّة إن لم يقدم إضافةً على مستوى الذات والعالم هو فعلٌ عبثيٌّ، وعلى هذا يُمكن أن أُكثّف التعريف بتجربتي بأنها الجسر الذي يصل همّي الذاتيّ بهموم الآخرين، أي في التلاقي بين حسّي وفكري وتوتّري، بحس الآخرين وفكرهم وتوتّرهم، فالشاعر الذي يتمركز حول ذاته، ويغرق في الأوهام والهذيانات الجوفاء، ويحاول إقناع الآخرين بها على أنها تجربةٌ استثنائيّةٌ تنبثق من اللاشعور وتعبّر عن معاناته ومعاناة الآخرين، إنّما يُمارس ضرباً من الكذب والتشويش، وهذا سببٌ من أسباب إخفاق الكثير من شعراء الأوهام في الوصول إلى مُتلقيهم، أو لنقل إنّ هذا أحد أسباب تراجع فاعلية الشعر على الساحة الجماهيريّة.
ما نراه من تسليط الضوء على البعض والتعتيم على آخرين وجهٌ آخر للفساد الوجداني والأخلاقي.. الذي يغرق فيه من لهم مصلحة في تعويم زبد الأجوف
* ما بين 1982 و2008 كان معظم إنتاجك، فهل تنضج الكتابة “الفكرة، الأسلوب” حقاً بين ديوان وآخر أم أن لكل كتابةٍ زمنها وحكايتها؟
أي تجربةٍ شعريّةٍ لا تتطور عبر الزمان والمكان محكومٌ عليها بالموت، وعلى هذا لا يُمكن أن نقرأ أي شعرٍ خارج حدود الزمن، لأن القصيدة ثم الديوان ابنا زمنٍ ما، بل إن النقد لا يستطيع أن يحكم على أي نصٍّ شعريٍ حكماً صحيحاً خارج القرائن الزمنية، والظروف التي تشكّل فيها هذا النص أو ذاك، فإذا فهمنا أن القصيدة هي “قصة” زمن معين، أدركنا بالضرورة أن لكل قصيدةٍ مناخها الخاص وفضاءها الخاص، وبهذا المعيار أجد أن لكل قصيدةٍ من قصائدي ملامحها التي لا تشبه سواها، وقس على ذلك دواويني المتتالية في سياق النضج المُتواصل للتجربة.
ومن هذا المنظور أرى أن أي شاعرٍ يجترّ معجمه الشعري والبياني والمعنوي في سياق التلاعب الفج بين مواقع المفردات، يجب أن يتوقف عن الكتابة والإبداع، فالاستمرار في الكتابة، يفترض تطوير الأسلوب وإنضاجه، ذلك لأن الأسلوب لا يُمكن أن ينفصل عن “الفكرة – المعنى”، فهذه الفكرة لا وجود لها بغير اللغة الشعرية، وما ينطوي تحتها من تفاصيل تتعلق بالبنيّة اللفظيّة والموسيقيّة والخياليّة والمعنويّة.
*أين أنت من الشعر منذ أعوام؟
أنا لم أتوقّف عن كتابة الشعر، ولكن في ظل إحجامي عن النشر، وفي ظل زحمة اشتغالي في ميادين أخرى “البحث الأدبي والسياسي والتراثي الشعبي والنقدي” بدا لمتابعيّ وكأنني قد غادرت ساحة الشعر، والحق أن لديّ مجموعةً شعريّةً جاهزة للطبع تحت عنوان “قبائل الريح” وفيها انعطافة في تجربتي على مستوى الأسلوب والرؤيا، وربما سيتأخر ظهورها بسبب تكاليف الطباعة الباهظة، وعدم رغبتي في طباعتها في مؤسسات النشر الرسميّة، لأن ما يُعطى للشاعر منها، لا يُساوي ثمن الحبر والورق الذي كُتبت عليه، وثمن دواء العين التي سهرت على إنجازها.
وإلى جانب هذه المجموعة أنجزتُ دراسةً بعنوان “البعد الديني في الشعر العربي المعاصر” والعديد من دراسات الموروث الشعبي منها “معجم الملفوظ الشعبي لدى قبائل الجزيرة السورية” و”التعابير المجازية في الملفوظ الشعبي الجزريّ” و”الخصائص اللفظية المشتركة بين الفصحى ولهجات قبائل الجزيرة السورية” و”معجم ألفاظ وتعابير المعايب والشتائم والسخرية في اللهجة القبلية الجزريّة”، إضافةً إلى عدد من الدراسات السياسية والفكرية منها “مرتكزات بناء الوعي الشبابي” و”نظرية المؤامرة بين النفي والإثبات”.
“أيها الأرمني الجميل” ديوانٌ يُقدّم صورة الإبادة بخطابٍ شعريٍّ يتخطّى فجاجة المباشرة في السرد التاريخي إلى لغة الاستعارة والمجاز والإيحاء
*كيف تصف ديوانك “أيها الأرمني الجميل”؟
**يقع ديواني هذا ضمن تصنيف الأدب الإنساني، وقد أردتُه رسالة تعاطفٍ مع شعبٍ تعرّض لأبشع إبادةٍ جماعية في مطلع القرن المنصرم، لأنه كان يُقاتل كالشعب الفلسطيني اليوم، من أجل حريته وهويته ووجوده.
واتكاءً على الربط الأرسطي بين الشعر والتاريخ، جاء هذا الديوان ليقدّم صورة الإبادة بخطاب شعري يتخطّى فجاجة المباشرة في السرد التاريخي، إلى لغة الاستعارة والمجاز والإيحاء، وقد حاولت أن أبقى في التاريخ حدثاً، وخارجه خطاباً، فأخلصت لما هو تاريخي بلغة الشعر التي هي لغةٌ تعبيريةٌ جماليةٌ متحركةٌ، وقد أخذ الديوان مكانه في وجدان الأرمن بعد أن ترجمته الدكتورة هوري عزازيان من جامعة يريفان إلى اللغة الأرمنيّة، وما تلا ذلك من الاحتفاء بهذا الإنجاز الذي تُوّج بمنحي جائزة العلّامة خير الدين الأسدي عن الديوان كجهدٍ إبداعيٍّ وحيدٍ متميز.
*هل تتفق معي في أن اسمك بقي بعيداً عن الإعلام؟ وهل كان هذا تقصيراً منك أم من الصحافة التي تهتم في معظم الأحيان بمجموعة أسماء وتُهمل غيرها؟
ليت السؤال كان: هل تتفق معي أن الإعلام بقي بعيداً عن اسمك؟ لأقول: نعم، لأنه ليس من المعقول أن يذهب الشاعر إلى أرباب المنابر الإعلاميّة ويدعوهم إلى الإضاءة على تجربته، بل على العكس، يجب على الإعلام أن يبحث عن المبدعين، وأن يأتي إلى بيوتهم وصوامعهم، أو أن يدعوهم إلى منابره، أمّا ما نراه من تسليط الضوء على بعضهم والتعتيم على آخرين، فهذا وجه آخر للفساد الوجداني والأخلاقي، الذي يغرق فيه من لهم مصلحة في تعويم زبد الأجوف على حساب عبير المبدع، وما ظاهره الشللية إلا انعكاس لهذا الإسفاف المقيت.
وفي هذا السياق أذكر أنّ أحد المحسوبين على الشعراء من أبناء محافظتي قد طبع كتيباً صغيراً عن الوجوه الشعريّة في الجزيرة، فلم أجد لي اسماً، كما لم أجد أسماء لشعراء هامين من الجيل الذي سبقني كالشاعر أحمد القادري والشاعر أحمد العباسي، وإنما وجدت بعض أسماء لأشباه شعراء ولصوص شعر، ومثل هذا يحدث على مستوى النقد كشكلٍ من أشكال الإعلام الثقافي عن تجربة الشاعر، فهو الآخر محكومٌ بالعلاقات الشخصيّة والانتفاعيّة، ما لمّع العشرات من أصحاب التجارب الخاوية التي لم تُقدّم أي إضافةٍ إلى المشهد الشعري، وذلك على حساب التجارب الثريّة المسكوت عنها.