فن تثبيت اللحظة الهاربة للاستمتاع بها للأبد
الصورة ليست مصنوعة في الكاميرا ولكن على الجانب الآخر منها.. وعلى ما يروي ( إدوارد ستيتشن): “إن التصوير هو إيقاف لحظة من الزمن للاستمتاع بها للابد!”، وهي أي الصورة الفوتوغرافية؛ “تمدّنا بالبراهين، لأننا نسمع عن شيء ما، لكننا في شك منه، غير أنه سيبدو مبرهناً عليه حين نرى صورةً له..”، وذلك على ما ترى (ك سوزان سونتاغ)، وسونتاغ طالما كانت مفتونة بالصور، ولها الكثير من الأقوال حول ذلك منها مثلاً: “ما يرفع من شأن الصورة هو الحبُ، الحبُ المفرط”، و”حين ينتابنا الخوف، نطلق الرصاص، لكن حين ينتابنا الحنين نطلق الصور”، فيما تقول الفنانة السورية أسمهان حامد عن علاقتها بالصورة: “بالنسبة لي الصورة؛ هي بشكلٍ ما من الأشكال؛ انتصارٌ على الزمن، واعتقال اللحظة، وهي أيضاً لغة تعبير.. فأنا لا أكتب الشعر، ولا النثر، لكن أكتب بالضوء كل ذلك, أحياناً أصنع المشهد ليُترجم صورة ذهنية عندي، وأحياناً اصطاده من الواقع، وأقوم بتأويله.” وتُضيف: في التصوير مرات يكون موضوع (سيناريو) الصورة هو المهم، ومرات تكون كيفية إظهار موضوع الصورة هي الأهم، كلّ ذلك في محاولة كيف تجعل من العادي والمألوف بالنسبة لعين المتلقي غير عادي ويستحق الالتفاتة.. والحقيقة ما تذكره الفنانة حامد؛ هو ما تقوم به الصورة الشعرية في النص الإبداعي الأدبي « شعر، قصة، رواية» بتلك البلاغة القائمة على الانزياح، والإيحاء، والتأويل، والرمز، وغير ذلك من تقنيات البلاغة.
وهنا يمكن أن نُضيف في التقاط الصورة؛ أهمية اختيار اللحظة المُناسبة، ومع ذلك كثيراً ما ساورني الشك حول المثل الصيني الذي يزعم أن “الصورة تعادل عشرة آلاف كلمة” وليس أدل على نفي هذا الزعم – على سبيل المثال- إلا في تجربة نقل الروايات الأدبية إلى الشاشة، سواء في أفلام سينمائية، أو في مسلسلات تلفزيونية، فقد أثبتت الكثير من تجارب هذا “النقل” أن الصورة غالباً ما كانت تتعادل أمام الكلمة الموحية بآلاف الصور، بنفس الصورة الموحية بآلاف الكلمات.
ومع ذلك ستذهب الصورة في رحلة نضال طويلة، وكما الكلمة، من العادي إلى الفن، وهي أي “الصورة” أول ما بدأت، فناً، بعكس الكلمة، وكان ذلك منذ سنين طويلة، ومعرض بعد آخر، كان يتم الفن التشكيلي في عملية تثبيت لحظة عارضة إلى صورة، وفي إثبات خصوصية فنية في اتجاهٍ تشكيلي من الصعوبة بمكان أن يتلمس المرء فيه خصوصية ما، وهو التصوير، وتحديداً هنا التصوير الضوئي، وذلك يعود لطبيعة هذا الفن، وضيق خيارات المناورة لإيجاد مثل هذه الخصوصية، فالصورة الفوتوغرافية، التي هي نتاج تواطؤ عينين؛ عين الكاميرا، وعين المصوّر، تكون حصيلة هذا “التواطؤ” هو ما ينقل المصوِّر إلى درجة فنان، وهنا تكمن الصعوبة، مع سهولة اقتناء آلة التصوير، ومن ثمّ كثرة المصورين، وبالتالي البحث المضني للتميز..
ورغم كل هذه الصعوبة، سيبرز في سورية مجموعة من المصورين، الذين هم في حكم الفنانين التشكيليين، ولكلّ منهم خصوصيته الفنية التي تختلف عن الآخر، نذكر منهم: الراحل وافد حيدر، أنس إسماعيل، وائل الضابط، عبد الحميد هلال، بشار العظمة، ضحى حسن، هشام زعويط، بسام البدر، وأسمهان حامد، غير أن القائمة لن تطول كثيراً، وهي بالكاد تصل إلى العشرة..!
فلم تفتقر صور زعويط – الذي كان يلتقط صوره من حوامة- لفضاءات التخييل، ولم تكتفِ بمعطيات المكان فقط، ويذكر: قبل أن أحلق في المروحية، عرفت الفرق بين صور السائح العابر الذي ينشد الغرابة، وبين العين المحبة التي تقف وراء العدسة لتصور المعشوق بفرحه وألمه وجماله وجلاله، فجاءت الصورة تؤرخ اللحظة الهاربة، أو الفرصة، كما يسميها مصورو الجو، في إظهار روح المكان، وعمره أيضاً، والحالات التعبيرية التي أعطاها اتساع زوايا الجو أمداء جمالية أخرى كـ”وثيقة للجمال والحياة”.. فيما جاءت صور هلال، وكأنه يغرف لقطاته من متحف “الأرض الكوكب الجميل، الذي هو من الرقة بحيث أن أقل شيء يخربه” وهذا ما سجلته عدسة العظمة والضابط من تثبيت اللحظات التي تهرب من بين الأصابع، أو من مرأى العين أيضاً فيما كانت العدسة بين يدي وائل الضابط أقرب إلى ليونة الريشة، أو كمن ينحت بأزميل.. سيختلف شغل هلال عن الكثيرين الذين أغوتهم الكاميرا وسحرها، فهو إضافةً لإصراره على الكاميرا الكلاسيكية القديمة وعمليات التحميض؛ سيذهب بعيداً ليقدم الأعمال الفطرية والعفوية لما استقرت عليه حركات الطبيعة التي تحاكينا في تصرفاتنا.
ولأن الشقاء لا لون له إلا الأسود، كان أن اختارت ضحى حسن تقنيات التصوير القديمة، أي الأسود والأبيض، والأخير الذي لا يأتي إلا لإبراز السواد، وتبيان تدريجاته، مع مساحة واسعة للرمادي، ولأن الوجوه حمّالة شقاء، أو الوجوه التي تفعل وترتسم عليها الأفعال السيئة للجوع خطوطها المرعبة، أو أن أشد الوجوه شقاءً هي وجوه الأطفال، من هنا كان أن لاحقت الفنانة هؤلاء الأطفال في تحركاتهم، لعبهم، انتظارهم، وحتى في “وقفتهم” لأخذ الصورة..!