مسرحية “كاهن الحقيقة” مقولة هامة بمعالجة ليست مختمرة
بدأت مسرحية اليوم الثالث في مهرجان حمص المسرحي الرابع والعشرين، على خشبة قصر الثقافة، (البروفيسور “كاهن الحقيقة”) لفرقة “سوا”، تأليف وإخراج: رواد إبراهيم، بمنولوج للبروفيسور وهو في مكتبه من دون أن تتبيّن لنا هوية المؤسسة التي يعمل بها. ففي الفضاء المسرحي فقط أثاث مكتب ومكتبة، فيها بعض الكتب لكتّاب عالميين يخاطبهم في مونولوجه البروفيسور، متذمراً من الوضع الثقافي في البلد، فتحضر أسماء بريخت وموليير في سياق تذمره من بعض المسلسلات التي تتناول البيئة الشامية، ويسخر المونولوج مما تروج أو تقاربه تلك المسلسلات في معالجتها الدرامية البائسة، لكن لا نعلم كيف حصر كاتب ومخرج العمل الثقافة، فقط في الدراما التلفزيونية، وهو يقيم الموازنة بين إنجازات أسماء كتّاب عالميين وبين ما أُنجِز من دراما تلفزيونية محددة الهوية، رغم أننا لا نفتقد الدراما التنويرية وإن أصبحت قليلة العدد بسبب ظروف الحرب.
فإن كان المنطلق ليس صحيحاً ودقيقاً فهل ما سيتبع سيكون صائباً في المعالجة والمقاربة والمقولة؟ إن كنا عذرنا المخرج على ما شاهدناه في الفضاء المسرحي خلال المشهد الأول فكيف ستعذره عما شاهدناه في المشهد التالي وهو من المفترض أن يكون في مكتب شركة إنتاج تلفزيوني، إذ لا شيء يوحي بذلك، مع إن الإضاءة تستطيع أن تساعد على تحديد المكان وتعزل حيزاً من الفضاء المسرحي لتقدّم الدلالة، لكن ذلك على ما يبدو قد غاب عن بال المخرج، الذي ظل في باله فقط تقديم عرض فقير، وكل ما تم تقديمه خلال هذا المشهد معروف ومكرر في مقالات ولوحات تلفزيونية، فلا جديد فيه، من أن المال يذهب لإرضاء النساء اللواتي لا علاقة لهن بالفن في حين يتم التمنع من قبل أصحاب الشركات بدعم الأعمال الهادفة، ففي المشهد كثير من الابتذال فليس من الفن أن نسمع الأصوات التي تصدر عن مدير الشركة وهو يقضي حاجته في الحمام، ومن ثم يتوهم المخرج أنه يقدّم كوميديا.!
سطوة عادل إمام!
هذه الكوميديا التي حاول أن يجعلها هوية لعرضه، كانت في كثير من ملامحها مبتذلة وغير مضحكة، فظلمت الملامح الأخرى التي كان يمكن لها أن تثير ضحك الجمهور من دون ابتذال ببعض الحركات والعبارات رغم خفة دم الممثل الذي جسّد شخصية “أبو فادي” لكنها تقع في المشهد الأخير، تحت سطوة شخصية ” الواد محروس بتاع الوزير” التي قدمها الفنان عادل إمام مع الفنان كمال الشناوي في فيلم حمل اسم الشخصية عام 1999.
والأغرب أن الجهاز الرقابي على الإبداع كما سمى ذاته الشخص الذي اعتقل البروفيسور بعد أن خرج من شركة الإنتاج معتدّاً بنصه الذي سيقلب كل المعايير، لا ندري على ماذا اعتقله بما أن النص قد مزقه صاحب شركة الإنتاج، فهذا الاعتقال المجازي، يفترض أن يتم تقديمه ضمن كابوس يراه البروفيسور، حتى تصحّ دلالته ودراميته. ولينقلنا المخرج فيما بعد لمشهد الشارع الذي قدم لنا فيه خطيبين ينتظران الباص أو السرفيس، فقط ليقدم فكرة الخوف من السلطة الأمنية، فالرجل الذي ظنه الخطيب رجل أمن تنبّه فيما بعد إلى أنه كفيف وإن ارتدى نظارة سوداء ويجلس على كرسي عند موقف الباص. لا ندري لماذا ظن المخرج أن هذه المفارقة كوميديا من نوع خارق، مع إن حذف المشهد لن يؤثر على بناء العرض المسرحي فبإمكان وضع البروفيسور في الشارع ينتظر وحيداً ومن ثم ليأتي البائع المتجول للدخان الذي أوهمه رجل الجهاز الرقابي أن التدخين ممنوع وهو يقصد أن يقول له ممنوع عليك أن تفكر وتعمل على توعية الناس، لكن البروفيسور رغم اعتداده بنباهته لم يفهمها وأخذ يعاتب البائع المتجول على هذه المهنة ما دعا هذا البائع لأن يبوح بمنولوجه لنعرف معاناته ويتمه وفقره بعد وفاة والديه وتكفله بشقيقته الصغيرة، منذ أن كان بعمر الرابعة عشرة. باح منولوجاً يصح أن يكون لكاتب منذ أكثر من نصف قرن، فهل يعقل أننا في زمن الحرب نقدم شخصية مقطوعة من شجرة عانت الحرب وويلاتها من دون أن يقدم لها قريب أو جار يد المساعدة.! كان بإمكان الكاتب المخرج أن يعمق معاناة هذا البائع بالإشارة إلى تقصير بعض الهيئات الحكومية والأهلية لبعض ذوي ضحايا هذه الحرب، مما كتبت عنه صحافتنا كثيراً، حتى يأتي المونولوج مقنعاً، وله ضرورة درامية محفزّة للبروفيسور كي يتوجه لبيت أحد مهندسي اللعبة، لعبة الحياة التي لا يسودها سوى الظلم، محاولاً أن يطالب بتحقيق العدالة، من المستشار الذي يتآمر مع ذلك المهندس، يطالب بها باسمه ككاهن للحقيقة، لجميع الناس وفي مقدمتهم هؤلاء المغمورون الفقراء، كما سماهم، وفي المواجهة لا ينتظره سوى نهاية تقليدية، روب أبيض ومصير معلوم ومجهول في آن واحد داخل مشفى للمجانين.
ابتذال أقل
أخيراً، إنّ ما حاول العرض أن يقاربه مهمٌّ جداً، لكنه يحتاج إلى معالجة أكثر عمقاً ودقة وإلى التخفّف من الابتذال في الكوميديا لشخصية “أبو فادي” الذي هو ذاته من يمسك الحراسة في بيت أحد مهندسي اللعبة الذي استقبل المستشار، فالكوميديا عندما لا تكون بمكانها تنقلب ضدها وتميّع المقولة العامة للعرض الذي جسده ممثلون يستحقون الثناء، لما يمتلكونه من قدرات أدائية لا يستهان بها، لكنها تحتاج لإدارة وتوجيه وضبط من المخرج أكثر مما شهدنا.
فريق التمثيل: علي الصالح، سام الرياني، سليمان العلي، محمود عبد الله، سلطان سليمان، وئام بدره، مريم علي، ساندي الحسن، محمد ديوب، علي الخضر.