رحيل الناقد د. رضوان القضماني الدمشقي عاشق حمص
ما إن يرحل أحد الأحبة حتى تستيقظ الذاكرة لتحيي أفعالهم ومشاركاتهم، فما زلت أذكر أنني أول ما التقيت الناقد الراحل د. رضوان القضماني، الذي غادرنا يوم الخميس الماضي إلى الأزرق اللانهائي، كان مناقشاً في إحدى الندوات التي أقيمت في المركز الثقافي في حمص، يقف شامخاً ويعارض أحد المنتدين ببعض الأفكار التي وردت في مداخلته، لافتاً نظرنا بابتسامته الجميلة واختصاصه في علم اللسانيات، ثم عرفنا أن صاحب هذا الحضور اللافت دمشقيٌّ وقع في حبِّ حمص، يدرّس في كلية آدابها، ثم توالى حضوره في الأنشطة الثقافية، وكان مشاركاً في الكثير منها وخاصة أنشطة اتحاد الكتّاب العرب كأحد أعضاء هذا الاتحاد، ليصبح أحد أبرز المشاركين في الندوات النقدية السنوية التي كان يعدّها رئيس المكتب الفرعي للاتحاد الشاعر الراحل ممدوح السكاف. ثم بتنا نرافقه أو نلتقي به محاضراً في أبرز مهرجانات وندوات تقيمها الهيئات الثقافية في مدن أخرى كمصياف وحلب والرقة ودمشق وطرطوس.
مبتدأ الضيافات
ما زلت أذكر أنه في أيلول عام 2018 عندما هاتفتُ الشاعر والناقد د. سعد الدين كليب لأعرف أين هو وفق معرفتي السابقة بحضوره من حلب إلى حمص للمشاركة في مناقشة أطروحة دكتوراه في كلية آدابها، أنني عندما سألته: أين أنت؟ ردّ عليّ: «سؤالك غريب وأين سأكون غير في حضرة شيخنا النقديّ». فأنهيت الاتصال بعد القول سأكون عندكم خلال ربع ساعة، ومضيت لبيت الراحل د. رضوان القضماني الذي كان يشرب القهوة مع ضيفيه د. سعد، و د. أحمد الحسن المشرف على الأطروحة بعضوية القضماني وكليب. في منزل الراحل القضماني التقينا أصدقاء وطلاب علم كثيرين في مناسبات كثيرة، وجلّ أحاديثها ثقافية أدبية وتغنينا مداخلاته القيّمة، لكن الدفء يكون مبتدأ الضيافات وخبرها يتجسد بطريقته الخاصة في الترحيب التي تعطينا الأمان عن صحته النفسية والودّية التي يبدأها بجملة «مرحبا مرحبتين بهالقامة وبهالعين»، وهي جملة طويلة وجميلة، وبالرغم من تكرارها على مسامع أحبته لم أشأ أن أحفظها، لأنها ليست ذات جمال بغير لسانه، وهو الاختصاصي بعلم اللسانيات والخبير بالتنغيم الصوتي للكلمات، يقولها منغّمة تفور بودّه ومحبته، تتفتح فينا حدائق محبة ونور يخص بها المقربين إلى قلبه من أصدقاء وصديقات.
النقد الأمثل
كان لديه مشروعه الذي عمل على إنجازه مع فريق من طلاب الدراسات العليا في كلية الآداب في جامعة البعث، وكان الهدف منه تحديد واقع استعمال اللغة العربية في وضعيتها الراهنة، في مكان وزمان محددين، هما سورية في العقد الأخير من القرن المنصرم. وتعتمد الدراسة منهج النقد اللساني، الذي يقوم على الكشف عن العناصر والعلاقات اللغوية التي تدخل في تكوين النص، انطلاقاً من أنه العلاقة اللغوية التي تشكل الوحدة الكبرى على المستوى الدلالي بين مستويات اللغة التراتبية، التي تبدأ من المستوى الصوتي، فالصرفيّ، فالمعجميّ، فالنحويّ، فالدلاليّ. وبهذا يكون المستوى الدلالي بوحدته الكبرى –النص- المستوى الأكثر تعقيداً وعبئاً وظيفياً ودلالياً. والنقد اللساني يمدّنا بطرائق للتحليل وتقنياته بما هو حرّي بأن يكشف جماليات النص ومقوماته الأدبية فيه. ورأى الراحل القضماني جواباً عن سؤال تلميذه وصديقه د. هايل الطالب في حوار نشرته صحيفة «النور» عام 2003 يستوضح السؤال هدف النقد اللساني بغية الدفاع عما يُتهم به من أنه لا يعدو أن يكون مجرد إحصاءات، فقال: «منهج النقد اللساني هدفه الأول دلالة النص مستخلصة من بنيته، والإحصاء خطوة ثانية، لأن الأولى هي المتن اللغوي، فهو خطوة ثانية نحو تحديد الحقول الدلالية التي تشير إلى المقولات الدلالية التي تكوّن دلالة النص.. إنه منهج وصفي، أي ينطلق من داخل النص لا من خارجه، فهو لا يأتي إلى النص بأي مقولة مسبقة أو خارجة عنه.. ليس نقداً تأثيرياً ينبع من ذائقة الناقد، وليس نقداً إيديولوجياً، وليس نقداً نفسياً يرتبط بالمؤلف أولاً…إلخ، لكنه ليس بعيداً عن هذا كله، بل هو قريب منه عندما تقود إليه التشكيلات الدلالية المستخلصة من النص وفقاً لمنهج النقد اللساني، ولم يقم ناقد لساني بالإحصاء من أجل الإحصاء لأنه يدرك أن ذلك هو اهتمام الإحصائيين لا النقاد، فإذا اكتفى به (ناقد) فهو قصير النظر، لأن الإحصاء في النقد اللساني وسيلة لا غاية، وسيلة يجب أن تساعد في الكشف عن بنية النص ومن ثم دلالته، انطلاقاً من أن هذا النص هو الوحدة الدلالية الكبرى، وعلى هذا يحاول هذا النقد أن يقترب الاقتراب الأكبر، ما وسعه ذاك، من الموضوعية متسلحاً بأدواته، أي الأدوات التي تضع الناقد خارج النص لكنها تقدم له النص على حقيقته. وهو برأيي النقد الأمثل الذي يكشف ولا يغيّر، يساعد ولا يصادر.
من كتابات الأصدقاء على صفحاتهم التي ترثي الصديق القضماني والتي تضيء بعضاً من جوانب شخصيته نقتطف أولاً من ما كتب صديقه وتلميذه د.حسان فلاح أوغلي: «لم يكن لأبي محمد أولاد يوم تعرفنا إليه، كان يومها يفيض أبوة علينا ويرى فينا أبناء له وإخوة. جاءنا ذلك الرجل الدمشقي الأصيل بـ«سكسوكته» المميزة ونظارته التي يخفي وراءها عينيه الجميلتين. واستطاع رضوان القضماني أن يغيّر كثيراً من طبيعة العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه، ولم تحل عمادة الكلية التي تقلدها سنوات عدة بينه وبينهم، بل زادته قرباً منهم، من دون أن يخل ذلك بالاحترام الذي يكنونه له. ولم يجد هو أدنى مشكلة بأن يدافع عن مشاركته الطلبة في دبكة أو رقصة خلال إحدى الرحلات، بل كان يرى ذلك من بلاغة الحضور التي تستدعي لكل مقام سلوكاً يناسبه». ويختتم أوغلي كلمته بالقول: «لك الرحمة والمغفرة، وسلام عليك أبا محمد، وأنت في الأزرق البعيد، سيكون شتاؤنا أشد صقيعاً من دونك، وغداً حين يزهر الربيع سنفتقد زهرة القضماني الجميلة، فهنيئاً لمن ستزهر بينهم من جديد».
وكتب الشاعر والناقد د. سعد الدين كليب: «زرته لأول مرة في بيته الدمشقي العريق سنة ١٩٨١، ثم زرته لآخر مرة في بيته الحمصي الأنيق سنة ٢٠٢٠، وما بينهما زيارات ولقاءات ومحاضرات وندوات ومؤتمرات في معظم المدن السورية وفي العراق والأردن ومصر… سافرنا ضمن مهمة البحث العلمي إلى مصر، وعشنا معاً في مدينة نصر في القاهرة. كان حنوناً كالأمهات، محباً كالعشاق، حيوياً كالأطفال، وكان في كل ذلك رجلاً بكل معاني الرجولة، ومثقفاً عضوياً وباحثاً موضوعياً وصديقاً قلبياً من الطراز الأول.. هذا الرجل الذي رحل اليوم هو رضوان القضماني أستاذ اللسانيات في جامعة البعث، ولكنه قبل ذلك وبعده هو صديق العمر بكل آنائه المفرحة والمؤلمة. فالسلام عليك يا صديقي».
كما كتب صديقه إبراهيم كاسوحة الذي تعرف إليه في موسكو خلال سنوات الدراسة: «لم أعرف عاشقاً لدمشق كما هذا الرجل، وعشقه للشام نابع من ثقافة عميقة عن تاريخ هذه المدينة، فهو يعرف تاريخ كل حي وكل شارع فيها وكل بناء تاريخي، كما يعرف تاريخ كل مساجدها وكنائسها وبساتينها وغوطتها التي حمت ثوار الثورة السورية الكبرى، وكان والده واحداً من ثوارها وقد تعرفنا إلى شخصيته الفريدة وهو في التسعين من عمره، حيث كان يصر على تحضير «فتة الحمّص» صباح كل يوم جمعة احتفاءً بأصدقاء ابنه. في حمص إضافة إلى عمل صديقنا في الجامعة وقد أصبح عميداً لكلية الآداب، فإنه لم تفته أمسية شعرية أو قصصية أو موسيقية ولا أي مهرجان سينمائي أو مسرحي أو غيره ولا أي جلسة مع الأصدقاء وهو النديم المحبب لجميع الأصدقاء. تميز بدماثة خلقه وإنسانيته واهتمامه بمن حوله ونجح في تسيير أمور الكلية من دون أن يرضخ أو يلين أمام ضغوط بعض الوصوليين والسفلة. اليوم لفَّني الحزن وانهمرت دموعي على صديقي الشيخ- الطفل، عاشق الشام والحياة، الإنسان المثقف بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى».
كما كتب الشاعر صقر عليشي: «كنت رجل الحياة.. صاحب الكلمة والموقف.. كنت باعث الفرح وناشره، أمّا اليوم فقد كنت موزّع الحزن وناشر اللوعة بجدارة، لروحك السلام دكتور رضوان، لن ننساك».
ونختتم بالقول: وداعاً يا أبا محمد مرتين لأنك كنت الإنسان المصفّى والأستاذ الأوفى لتلاميذه وأصدقائه.