بعض من ملامح الهوية .. في المشهد التشكيلي السوري

كل العالم تعلّم من شرق المتوسط، وليس من غربه، وتجاربهم الإبداعية أقل من تجاربنا، و ليس العكس، حتى إن كل التجارب التشكيلية المدهشة في هذا الكون، لها جذورها الشرقية، من يصدق المزاعم بإن الوحشية الفرنسية جاءت بعد زيارة الفنانين الفرنسيين لبلاد الشام..؟
نذكّر اليوم بفن «الإيقونة» الفن المسيحي القديم، والزخرفة الإسلامية اللذين انطلقا من المنطقة العربية، ثم كان لهما التأثير الكبير في نتاجات التشكيل في مختلف دول العالم.. من هنا نتفهم هؤلاء الفنانين الذين يصرون – برغم كل إغواء العالمية – على مرجعيتهم التي هي في هذا التراث المشرقي الضخم، والثّري، وليس في الغرب، مع إن الكثير منهم عاش هناك، أي في هذا الغرب الذي يدعي امتلاكه كل شيء..!
كتب الحريري «المقامات » بناءً على طلب من الوزير شرف الدين بن نصر وزير الخليفة المسترشد، وحينها كان الحريري يعمل بوظيفة صاحب الخبر، ما يقارب وزير أعلام وثقافة في العصر الحالي، وهي خمسون مقامة، بطلها أبو زيد السروجي، ويروي حكاياته الحارث بن همام، على غرار مقامات بديع الزمان الهمذاني، من حيث البناء الفني، والالتزام بشخصيتي الرواية، ومن ناحية كشف العيوب الاجتماعية، ومعالجة المسائل الفكرية واللغوية..
غير أن الأشهر من هذه المقامات تلك الرسومات التوضيحية، التي أرفقها الواسطي مع هذه النصوص، التي تزيّن المخطوطات ونتخيل شكلها الصغير، وهي مهرجانات من الألوان في صور يفصلها عن بعضها صفحات مكتوبة، ظهرت قبل الإسلام، ولها مقاربات في الصين والهند، غير أن ما يقابلها في الطرف العربي يفوقها جماليات تشكيلية، على ما ترى مؤرخة الفن البريطانية أميلي بورتر، وذلك على يد يحيى بن محمود الواسطي، بصفته واحداً من مصوري مقامات الحريري، الذي عبّر بالرسم – كما يذكر جورج عيسى في كتابه « شيخ المصورين العرب» – عن مرحلة كاملة من مراحل يقظة الروح العربية خلال القرن السادس الهجري.. وهذا ما تأثر به بيكاسو إلى حدِّ كبير، إضافةً لعدد من الفنانين الأوروبيين، خلال القرن العشرين، ولذلك ثمة تأكيد، أنه «لولا الواسطي لما كان بيكاسو» ذلك أن كل تذاويق الواسطي موجودة في متاحف الغرب منذ زمن طويل، وقد تأثر بها الفنانون هناك..
ثمة لوحة تشكيلية سورية، هذه حقيقة موجودة، اشتغل عليها أكثر من فنان سوري، وبرغم تنوّع التقنية والأسلوب لإظهار لوحة كهذه، غير أن أكثر من تقاطع بين هذا النتاج الذي يصر أن يبيّن مرجعيته السورية في تفاصيل اللوحة، ورغم هذه التقاطعات أيضاً كان لكل من اتجه في هذا المنحى بصمته التي تُميّز شغله الفني، هؤلاء الذين يصرون على إنتاج لوحة لها مرجعيتها السورية.. وقد برزت هذه الهوية في العديد من الملامح سواء كان في إضفاء إشارات مكانية، وحتى زمانية في اللوحة، فقد ظهرت بيئة الشمال السوري من خلال اللون الترابي الذي كان هاجس الفنان فاتح المدرس مثلاً، أو من خلال تضمين الزمن وحي الرموز كما فعل إلياس زيات وإداور شهدا من خلال التركيز على الإيقونة على سبيل المثال أيضاً، وتتعدد مظاهر الاشتغال على الهوية السورية بالكثير من الملامح كاستخدام رموز فينيقية عند بولس سركو وسموقان وغيرهما الكثير، ويمكن الحديث عن اللون الأزرق والأرجوان السوريين في اللوحة، أو من خلال التركيز على العمارة القديمة في المدن السورية العتيقة، وإذا ما أردنا أن نُعدد هذه الملامح فقد نحتاج دراسات طويلة لا يستوعبها غير المجلدات، لكن هنا سأكثف في ملمحين من مئات الملامح التي من خلالها يمد العمل التشكيلي مجساته صوب سورية العتيقة، وهما اللون الأزرق والعمارة القديمة..
ربما يكون الفنان التشكيلي السوري ناظم الجعفري، أحد أهم الفنانين التشكيليين، الذين أوقفوا كامل نتاجهم الفني، لتصوير دمشق، والبالغ ما يقارب (8000) لوحة، محققاً بذلك رقماً قياسياً في رسم تفاصيل هذا الجزء الحميمي من ذاكرته الطفلية، وقريب منه أيضاً سهيل معتوق، الذي هو الآخر أوقف كامل التجربة الفنية لموضوع «القديم» في هذه المدينة، هذا الجزء من دمشق الذي صار اليوم مشغلاً ومحترفاً للكثير من الفنانين سواء من خلال المراسم والمحترفات التي اتخذت لعرض اللوحات الفنية، والتي يشبهها بعضهم – دمشق القديمة – بـ«امرأة في أسمال» شكلت لدى معظم السوريين نصف إبداعهم على الأقل، وشكلت لدى آخرين أكثر من (90 0/0) من نتاجهم، بل من النادر أن تجد فناناً سورياً، لم يتناول دمشق القديمة في أعماله.
صحيح أن أغلبية هذه الأعمال وقعت بالرؤية «المتحفية» والتسجيلية، لبيوت متهالكة، تدافع بضراوة على حمل تصدعاتها كمحاولة لـ«تثبيت» يائس لعالمٍ يكادُ يندثر، وذلك من دون تمثل عناصر هذه المدينة من توليدات جديدة في اللوحة، والمفارقة أن الذين خرجوا عن هذا «التوثيق» كانوا غير دمشقيين، كما في العمارة التي أنشأها عبد الرحمن مهنا من حلب، وصافيناز القوتلي، وأسامة جحجاح وغيرهم.

ودمشق القديمة، ليست هي المدينة السورية الوحيدة التي كانت في مهب ضربات ريشة الفنانين التشكيليين، حيث تبدو طرطوس القديمة، وكذلك معلولا تحديداً ندّين لقدامة دمشق في الفن التشكيلي، وثمة مثال لناظم الجعفري في طرطوس، هو الفنان غسان السيّد، التي كانت طرطوس العتيقة كدنيا مشتهاة يُعيد تشكيلها بصياغاتٍ متعددة، ولانهاية لتعدد صياغاتها، لكنه مع ذلك سيختلف عن الجعفري بالتناول، ذلك أن الجعفري اشتغل على دمشق القديمة توثيقياً وموغلاً في رسم تفاصيل هذا الجزء الحميمي من ذاكرته كشاهد على ولادته ونشوئه الأول، فيما غسان جديد سيلتقط من المكان روحه، كصرخة ملونة عفوياً وكأنها رسمت بيد طفل، فتأتي الأمكنة سابحة كالأرواح في بحر أو فوق بحر من الألوان الحارة والباردة معاً بكل صرختها ووضوحها.
البعض الآخر من الفنانين، لم يكتفِ بالعمارة، وحسب، بل صوّر الحياة اليومية في كنف هذه العمارة، من مارة وأصحاب مهن قديمة، هي الأخرى تبدو أثيرية لكثير من هؤلاء الفنانين، والبعض الآخر دخل إلى داخل المنازل العتيقة، ومن الداخل عرض «المُخبأ» وما كان مستوراً من زوايا ونساء، كما فعل ممدوح قشلان في لوحته الشهيرة «الملايات»، وقلة هم الذين «أنسنوا» تفاصيل تلك الأمكنة، بإعطائها شيئاً من المشاعر الإنسانية كالحنو والاحتضان والتكوير، وغير ذلك.
تبدو المدن السورية العتيقة في الفنون التشكيلية مبعثاً للإدهاش، في هذا الكم الهائل من اللوحات الفنية، وهذا الاحتفاء بـ«الأطلال» في التشكيل، تجاوز بقية الأنواع الإبداعية من شعر وقصة ورواية، وحتى دراما، وسينما ومسرح.
شيءٌ ما، يشد الكثير من المبدعين صوب الأماكن القديمة، شيءٌ ما، كرائحة، أو كهاجس، أو كخوف، وحتى كحلم، ولذلك فإن البعض منهم، يكاد يوقف كل نتاجه الإبداعي لمكان بعينه، سواء جاء ذلك الإبداع كتابة، أو تصويراً، وحتى فنوناً تشكيلية، والأخيرة، تنوعت في تناولها للأماكن العتيقة، حيناً تأتي واقعية وتسجيلية، وطوراً تأتي كمدينة مشتهاة، وقد يأتي الإبداع من وحيها، أو من خلال إعادة بنائها بلغة جمالية جديدة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار