الكرَم هو العطاء المجرّد من الغرض والمنفعة المقابلة، وإذا لم يكن كذلك يتحوّل إلى دَين, أو قرض, فالكرَم لا يكون كَرَماً إذا كان يبتغي مردوداً ما، حتى لو تمثّل المردود في أفعال الحمد والشكر التي يمارسها المستهدف بالعطاء, غير أنّ تأمّلاً وافياً لظاهرة الكرم في شكلها الذي كان شائعاً في مجتمعات الجزيرة العربية القديمة، يجعل أبناء اليوم ينظرون إلى تلك الظاهرة بعين التفحّص المشوب بمقادير متفاوتة من الشك والارتياب.
يمضي استنطاق المخزون الشعري العربي الخاصّ بامتداح الكرم والكرماء بالباحث في علوم الإناسة «الأنتربولوجيا» إلى مواجهة مسائل عديدة جديرة بإعادة التقليب الذي يستهدف المزيد من تأمّل الظاهرة والمزيد من استنطاقها، بوصف الأنساق الثقافية التي تناولت ظاهرة الكرم بالامتداح كانت أنساقاً لافتة من نواحٍ عديدة كجماليات الصياغة، وصدق العاطفة، والإسهام في إنتاج القيم.
لا يمكن الجزم بأنّ ممارسات الكرَم في المراحل القديمة كانت ممارسات منزّهة عن الغرض، حتى لو اقتصر الغرض على توخّي عبارات الشكر والامتنان, وإذا نوقشت المسألة من زاوية الموازنة بين أفعال العطاء، وأفعال الشكر، تمضي المناقشة إلى تقليص قيمة الكلام المعسول مقابل الوسائط المادّية من طعام وكساء, فالكرم يظلّ كرماً حتى لو انتظر الكريم ردّ عطائه بعبارات الشكر والثناء التي يمكن تطويرها باتجّاه النظم الشعري الذي كفل ديمومة الأنساق الكلامية ذات الصياغة الفنية الجيدة، وكفل لنا التواصل معها.
لا نقصر الكرم على حالاته المتطرّفة المسرودة في شعرنا القديم، بل نسعى إلى تناوله في صيغته الفطرية الأكثر شيوعاً، صيغته المتمثّلة بتقديم الأمن والطعام والاحتضان الاجتماعي لمعظم جوّابي الجزيرة العربية بمساحتها الشاسعة التي ظلّت محكومة، قروناً مديدة، بترحال أبنائها المتواتر «جماعات وأفراداً» بحثاً عن السبل الأفضل للعيش, فكان الاحتضان وتقديم الطعام شكلاً من أشكال تقديم أسباب الحياة وتدعيمها، وكان النبذ والامتناع عن منح الطعام شكلاً من القتل، ودعم أسباب الهلاك, وبرغم ذلك، يظلّ الكرم ملتبساً بطبيعته التبادلية الماثلة في سبيلين، يتمثّل أحدهما في المأمول من عبارات الشكر التي يمكن أن تكون قصيدة عظيمة، ويتمثل الآخر في أن أيّ كريم يمكن أن يتحول إلى ضيف يستعطي، ويرجو، أو يستجدي الآخرين الأمنَ والطعام، فكأنّ ما يجود به من طعام واهتمام مجرّد حالة من حالات التسليف التي يأمل استردادها بطرق شتى، وزّعها الحطيئة في مردود مباشر خاص بالبشر، ومردود آخر غير مباشر يتكفّله الله:
من يفعل الخيرَ لا يعدم جوازيه… لا يذهب العرف بين الله والناس.