“كاستينغ” .. “المثل في مِثله ساكن”!

يجلس “جهاد” مأخوذاً بشكل كامل لما يشاهده على شاشة الحاسوب من روائع السّينما العالمية لحين استقباله مكالمةً هاتفية نعتقد منها أنّه سلّمنا خيط الأحداث من أوّله لآخره، سنعرف أنّ الحظ لم يحالف المخرج في إيجاد بطلة لفيلمه القادم فالممثلات كلّهنّ نسخة طبق الأصل عن بعضهن البعض وكأنهنّ يخضعن لمبضع خبير التّجميل ذاته. ينهي جهاد المكالمة بغضب وبقليل من الأمل ويوشك على الخروج من مكتبه ومختبره لولا فتاة “جوليا” تجبره بلطف وقوة وضعف وأمل على البقاء والاستماع إليها وخضوعها لتجربة الأداء الأخيرة لديه.
في بداية أدائها يتململ ويهدد بالخروج لكنّه سرعان ما يتورّط بالتّجربة فيختبر معها بدايات ونهايات وأحداثاً مختلفة خارجاً عن المكتوب في السّيناريو الذي يتحدّث عن قصّة حبّ مرفوضة من الأهل تنتهي بحزن كبير لا يحتمله الحبيبان فيذهب كلّ في طريقه، وهنا تعلو صرخات العاشق والمخرج والفنان التّشكيلي معاً، ومعها تدخل زوجته مذعورة، تحنو عليه وتعبّر عن شوقها له ولأيام الحبّ والسّعادة الماضية، تنزع عنه ملابسه المتّسخة، تعاتبه على ارتدائها وعلى استعادته السّيناريو ذاته وتخبره بأنّه رُفض كما المرّات السّابقة، لنستشف من حديثها أنّه يعاني مرضاً نفسياً ويخضع للعلاج ويتناول الأدوية التي تخفف عنه حالة الشّغف والحبّ والطّموح المقتول والجنون لما يسكن عقله وقلبه.
دهشة جميلة ومحزنة تلك التي أصابنا بها العرض المسرحي “كاستينغ/تجربة أداء” لمؤلّفه ومخرجه سامر محمد إسماعيل، بعد جرعة قوية من أفكار ومشكلات وقضايا وضحك وابتسامات ودمعات وضع الحضور في صورتها كمعاناة الخريجين الشبّاب والموهوبين في مجال التّمثيل في الحصول على فرصة أداء واستغلال الفتيات منهم جنسياً ووجود مخرجين يعملون بجدّ وأخلاق ومثلهم على الضّفة الأخرى مخرجين لا يعرفون من الإخراج سوى الصّراخ.
قضايا اختار لها إسماعيل حواريات سهلة ليست بحاجة لقواميس يلجأ إليها المسرحيون أو المتابعون غير المتعمقين في المسرح لترجمتها أو العودة إلى الإنترنت لمعرفة القصد منها، حوار بسيط لنصّ غير بسيط، نصّ مركّب أو لعلّ الوصف الأكثر دقًة هو “عرضان في واحد” مع حبكهما بخيوط متينة لم تتفتّق إلّا حين أراد هو ذلك، معتمداً على ممثلين اختارهم بعناية، وكما يقال بالعامية “الدّور لابسو لبس”، ابتداء من “جهاد ـ عامر العلي” العرض قبل ربع ساعة وجلوسه في مكتبه قبل وصول الجمهور غير آبه بكلّ الفوضى والضّجيج والأحاديث وربّما الانتقاد المسبق وعدم الاكتراث له وانتظار السّاعة حتّى تصبح السّابعة تماماً كي تعلن بداية العرض، إلى أداء “جولياـ دلع نادر” الموهوبة فعلاً في العرض وفي الواقع، لم تترك مجالاً لعدم الانفعال والتّعاطف معها والإشادة بأدائها ورشاقة حركتها على خشبة المسرح وسرعة انتقالها من مشهد إلى آخر، كسرعة الثّواني التي مشت بها هذه الوجبة الدّسمة إلى رتابة مفاجئة ومفجعة بدخول زوجة المخرج ” نادياـ مجد نعيم” التي أدّت دوراً مماثلاً له ـ مراراً ـ ألفناها فيه في الدّراما ربّما هذا ما جعله يبدو حقيقياً أو هو كذلك الفتاة الطّيبة المتفانية في بيتها وعملها، وبهذه الاختيارات يؤكّد فعلاً سامر إسماعيل ما اقتبسه من ابن حزم الأندلسي: “والمثل في مثله ساكن”، ليس هذا فحسب بل إنّه يؤكّده في كلّ ما يقدمه للمسرح بشغف وحبّ وربّما أمل في حراك مسرحي سوري أفضل.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار