النّقد حين يقتل نفسه ..!
كان خبر مشاركة أدباء كبار سناً وقيمةً في ندوة نقديّة لباكورة أعمال «شاعرة»- أقلّ ما يقال عنه صفّ كلمات كيفما وقعت- أشبه بصدمة من صدمات ثقافية كثيرة تعوّدنا عليها، لكن لابدّ بين الفينة والأخرى من معاودة الشّعور بها لقسوتها أو لهشاشتها أو ربّما اعتقدنا مؤقتاً أنّ إحساسنا بهذه الأمور قد تلاشى ـ تمسحنا ـ جعلنا نشعر أنّنا ألِفنا هذه الظّواهر.. ليست الصّدمة في دعم التّجارب الجديدة والشّابة تحديداً لأنّ هذا مانعمل عليه ونشتغل من أجله منذ زمن، لكنّ الصّدمة من كمِّ المديح الذي تلقّته هذه «الشّاعرة المبدعة» كما وصفها أحدهم وهو في قرارة نفسه وفي جلسات خاصّة صرّح بأنّ ماكتبته لا يمت إلى الشّعر بصلة لا من قريب ولا من بعيد لكنّه لا يريد «أن يكسر بخاطرها»!!.. ومن أجل ألّا «يكسر بخاطرها» وتحت مسمى المجاملة كالها من المديح أكثر ماكاله “الغزال لابنه القرد”، تاركاً مهمة النّقد المهنية لغيره ومتنصّلاً من المسؤولية التي أوكلت له كمحاضر في ندوة أولاً، وثانياً كأديب له دوره في تقديم المفيد أدبياً ونقدياً وبالتالي تطوير الحراك الثّقافي.
لكن ما الفائدة التي يقدمها الأديب حين يجامل ويمدح ويتنصّل من النّقد الأدبي لهذا الدّيوان أو غيره؟.. الجواب في الحقيقة لاشيء على الإطلاق، بل كلّ مافعله هو إضافة مصيبة شعريّة أو أدبية مع الأيام ستصّدق نفسها بأنّها أديبة ومبدعة، وكلّما مال خصرها زادت عجائب الدّنيا، أو كلّما تغزّل «الأديب والمبدع» بأنثى أو فتاة أصاب الأخريات بالإغماء.
المجاملة في الأدب لا تجوز لغير الصّديق فكيف لصديق حياة ومهنة ودرب؟ المجاملة ليست من الصّداقة بشيء أن يقدّم أديب منتوجاً أقل مستوى من سابقه أو أعلى ويقول له صديقه الأديب: أبدعت وأجدت وحلّقت وأتحفتنا وعظيم وغيرها من مصطلحات التّفخيم والمديح وهو يدرك أّنه يكذب على صديقه وأنّ هذا سيضّره أكثر ممّا يفيده ويفيد صداقته؟ أليس جديراً بهذا الأديب وغيره أن يقول ما أعجبه وما لم يعجبه في هذا المنتوج ويبرّئ ضميره أمام صديقه وأمام الثّقافة والأدب ويكون أهلاً لتحمّل مسؤولية كلمته فعلاً لا قولاً فقط وتنظيراً كما في كتبه ورواياته وقصائده؟.
المجاملة في الوسط الثّقافي تعدّت القراءة النّقدية والأمسية الأدبية وتصريح صديق لصديق إلى «بيت فستق» كما يقال في المثل الشّعبي الدّمشقي، أي نتحدّث عن الشّللية في هذا الوسط، نتحدّث مجموعة من الأدباء أو الهواة أو أصحاب التّجارب الأولى ـ بغض النّظر عن قيمتها ومستواها ـ التي دأبت على الحضور معاً أو التّغيّب معاً عن أي نشاط ثقافي وفي أحيان كثيرة حصر حضورهم بمشاركة أحدهم فقط، حينها لا نعرف من أين يأتي التّصفيق أو التّصفير أو عباراتي: «ياكبير.. يا عظيم» طبعاً مع التّذكير بأنّ هناك من يقول هاتين العبارتين ذمّاً لا مدحاً في حال كان من يعتلي المنبر لا يعجبهم أو ليس من شلّتهم.
أمام قليل ذُكر وكثير لم يُذكر، للأسف يمكننا القول: إنّ النّقد لا يقتل ذاته فحسب بل ينهش في جسد الثّقافة طالما أنّه في غالبيته يعتمد على المحاباة والمجاملة لا على تشخيص المشكلات أو تقديم تصوّر لأفق أوسع وأفضل ولا إضاءة على ضعف ولا أو تنويه بقوّة أو على الأقلّ نصيحة ترسخ في الذّهن ويتذكرها الشّباب في المستقبل يصبحون أدباء ومبدعين حقّاً.
تحدّثنا عن أديب يمارس فن النّقد وسنتحدّث عن الصّفات التي يجب توافرها في النّاقد المختص – ولو أنّه نادر- أو حتّى من يسمّي نفسه ناقداً، مع إنّها أمور بدهية، ولكن لا ضير في تذكير سريع بأنّه يجب أن يكون مثقفاً ومطلعاً على الحراك الثّقافي تاريخه وحديثه وكذلك التّجربة التي هي موضوع نقده كي تكون مقارباته في مكانها، وإلّا ستكون كلّ قراءاته مكررة وربّما هي كذلك فعلاً مع تغيير في أسماء الدّواوين والكتب.
لكن يبقى الأمر الأكثر أهمية من كلّ هذا هو أن يكون النّاقد حرّاً من علاقاته الاجتماعية ومصالحه الخاصّة مع هذا الأديب أو الهاوي أو ذاك وأنّ يعزل حياته الاجتماعية عن الثّقافية, وتالياً يكون قادراً على تقديم نقد موضوعي بعيد عن المحاباة والمجاملة والشّخصنة أو العدوانية، فجلّ ما تحتاجه الثّقافة اليوم عمل حقيقي وكلمة حق بعيدة عن المجاملة والمحاباة، لذا دعونا نترك غزلنا المصطنع وإشاداتنا المفخمة لحياة اجتماعية ولجلسات أصدقاء اختصرها المتنبي بالقول:
وخِلّة في جليس أتقيه بها كيما يرى أنّنا مِثْلان في الوَهَن