ملتقى جوقات سورية.. عِقدٌ تلألأ بريقاً في دار الأسد للثقافة
عشر جوقات على مساحة الوطن اصطفت في عقد واحد لتتلألأ برّاقة وتصدح بصوت واحد متناغمة الأداء ومنسجمة الإحساس معلنة أن الغناء الجماعي بتنوّعه التراثي اللامادي حاضر ومستمر منذ غابر الأزمان، وأنه وإن اختلفت ألوانه وأنماطه وأشكاله ومكوناته سيبقى ألقه ساطعاً يبهر الأنظار.. من هنا وعلى مدى أربعة أيام استضافت خشبة مسرح دار الأسد للثقافة والفنون بدمشق “الأوبرا” «ملتقى جوقات سورية» الذي أطلقته الدار في نسخته الثانية بالتعاون مع وزارة الثقافة بورشاته الفنية وأماسيه الغنائية التي أحيتها الجوقات المشاركة وهي: كورال الحجرة التابع للمعهد العالي للموسيقا, جوقة صدى «يبرود», جوقة أرجوان «طرطوس», جوقة قوس قزح, جوقة كنيسة أم الزنار «حمص», جوقة حنين «صافيتا», جوقة غاردينيا, جوقة الراعي الصالح «اللاذقية», جوقة اسبنتاريان «حلب», جوقة مار أفرام السرياني البطريركية.
ويقول المايسترو أندريه المعلولي مدير عام الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون عن هذه الفعالية: انطلاقاً من حرص الدار على تقديم الفن المحلي والعربي والعالمي للجمهور السوري بهدف رفع ذائقته الفنية وفتح آفاق ثقافية أوسع أمام مخيلته, جاء دعم المشاريع الثقافية الكبيرة منها والصغيرة كافة واحتضانها والتي تمثل ملتقى الفنون والفنانين أينما كانوا, ما دام الفن يختصر المسافات ويجمع كل الثقافات، وضماناً لتحقيق استمرارية هذا الدعم, وفي إطار السعي لاستقطاب أنماط فنية متنوعة, يأتي «ملتقى جوقات سورية» لعام 2021, هذا الملتقى الذي أطلقته دار الأسد في أصعب الظروف عام 2017 وعاودت تنظيمه في هذا العام على أمل أن يصبح تقليداً سنوياً لتسليط الضوء على بعض «الكورالات» الموجودة في المحافظات ودعمها وإتاحة الفرصة أمام الحوار الثقافي الذي يجمع بين هذه الجوقات خلال الملتقى والمحاضرات المرافقة له والأمسيات الكورالية, ما يزيد في خبرات هذه الجوقات ويضعها على سلّم التطور بشكل دائم ويغني برنامج الدار الفني ويسمح للجمهور بالتعرّف عليها في المحافظات ، إضافة إلى ورشات العمل وأهميتها في الإضاءة على الموسيقا السريانية السورية الأصيلة التي غنّتها جميع الجوقات في ختام الملتقى، وتعرّفت خلال هذه الورشات على أسلوب غنائها وإيقاعها باعتبارها أحد أركان التراث اللامادي الذي يميز حضارتنا القديمة، ووضعنا بين أيدي جمهورنا على مدار ثلاثة أيام تلاها حفل ختام يجمع جميع الجوقات المشاركة التي تمّ اختيارها بعناية من مدينة دمشق وعدة محافظات مع مراعاة مشاركة جوقات لم تشارك سابقاً لتمثل محافظتها ولتقدّم برنامجها الخاص الذي خضع لمعايير مدروسة من قبل لجنة مختصة بهذا الملتقى.
وعن فكرة الملتقى والهدف من إقامته تحدث المايسترو ميساك باغبوداريان مدير الفرقة السيمفونية الوطنية السورية وأحد أعضاء الفريق التنظيمي للملتقى قائلاً: بدأت فكرة إقامة ملتقى للجوقات السورية في عام 2017 وكنت وقتها المدير الفني لذاك الملتقى حين قامت دار الأسد للثقافة والفنون بتنظيم أول ملتقى لجوقات سورية بمشاركة جوقات من حمص, مشتى الحلو, صافيتا, طرطوس, حلب إضافة إلى جوقات من دمشق هي: كورال الحجرة التابع للمعهد العالي للموسيقا, جوقة قوس قزح, جوقة مار أفرام السرياني, جوقة فرح. وكان الهدف من هذا الملتقى إنشاء منصة تبادل للجوقات الموجودة في سورية من خلال إتاحة فرصة اللقاء والاحتكاك لأعضاء هذه الجوقات إضافة إلى منحهم خبرة إضافية من خلال ورشات العمل المرافقة للملتقى وتعريف الجمهور في دمشق بجوقات موجودة في المدن السورية, ولعل أهم هدف كان حينها هو الدعم المعنوي للجوقات في ظروف الحرب على سورية ، أما اليوم فيُعدّ ملتقى 2021 النسخة الثانية لملتقى الجوقات بوجود جوقات مشاركة جديدة من اللاذقية ويبرود.
وعن طريقة اختيار الجوقات المشاركة يتابع المايسترو باغبوداريان فيقول: تمت دعوة الجوقات المشاركة في نسخة عام 2021 من قِبَل دار الأسد للثقافة والفنون تلك الجوقات التي تقدمت بطلب إقامة حفلات في الدار مع مراعاة التنوع الجغرافي للجوقات المشاركة وفق عدة شروط منها: أن يكون قد سبق لها تقديم حفلات في المدينة الموجودة فيها أي أنها مشكّلة مسبقاً ولها نشاط في مدينتها, وأن يكون الغناء على الأقل لصوتين مختلفين لأن الغناء الكورالي يعتمد على تعدد الأصوات, إضافة إلى شروط تتعلق بعدد الأعضاء المشاركين لتحديد العدد الكلي للمشاركين في الملتقى وتحديد عمر المشاركين بأن تبدأ أعمار جميع أعضاء الجوقات من 18 سنة وما فوق.
وهذه الشروط لها علاقة بالغناء الجماعي الذي يعد نمطاً جديداً نوعاً ما لثقافتنا الشرقية المعتمدة على اللحن الواحد, وهو إضافة لدوره الثقافي يشكل حالة اجتماعية وإنسانية مهمة وضرورية للمجتمع خاصة في الظروف التي نعيشها فالغناء الجماعي يساهم في تعزيز الانسجام في المجتمع من خلال تشارك الأصوات في انسجام موسيقي لا ينجح من دون وجود انسجام نفسي وإنساني بين أعضاء الجوقة.
ويتابع : من الضروري دعم الحركة «الكورالية» في سورية من خلال إيجاد منصات تبادل وفرص تلاقٍ للجوقات الموجودة والدعم في تشكيل جوقات جديدة في كل المدن للمساهمة في تعزيز الانسجام بين أفراد المجتمع.
أما ورشات العمل المرافقة للملتقى فيحدثنا عنها شادي سروة مدير وقائد جوقة مار أفرام السرياني ومنسّق ورشة عمل الموسيقا السريانية في الملتقى فيقول: تم توجيه الدعوة من اللجنة المنظمة للملتقى لبعض خبراء تدريب الغناء الجماعي ليقوموا بإعداد ورشات عمل يتشارك فيها جميع أعضاء الجوقات المشاركة على امتداد أيام الملتقى, وتضمنت هذه الورشات أربعة محاور الأول: تقنيات الغناء الجماعي بإشراف غادة حرب، والثاني: أنماط الغناء الكورالي وأنواع المؤلفات الكورالية بإشراف بشر عيسى، والثالث: الموسيقا الشعبية السريانية بإشراف شادي سروة، والرابع: ألعاب كورالية بإشراف حسام الدين بريمو.
واللافت للانتباه في هذا العام رغبة اللجنة المنظمة للملتقى بالاهتمام بتسليط الضوء على مكون أساسي من مكونات التراث اللامادي السوري وهو الموسيقا السريانية التي تعد الموسيقا التراثية سواء الدينية أم الشعبية السريانية والتي تُعدّ من أهم مكونات الحضارة والإرث الثقافي الموسيقي الشعبي لسورية، وبناء على هذا تمّ تركيزي في ورشة عملي على المرور السريع لتاريخ نشأة هذه الموسيقا وهويتها وميزاتها على المستوى التقني من جهة الأوزان الموسيقية والمقامات اللحنية، وكان التدريب العملي لهذه الورشة موزعاً على محورين, الأول: محور التأثير و التأثر بين الموسيقا السريانية والموسيقا العربية في المنطقة، أما المحور الثاني فكان تدريب عملي على بعض أنماط الموسيقا الشعبية السريانية واختلاف أوزانها الموسيقية ومقاماتها الموسيقية كـ«الماردلّي» و«الجزراوي».
وعن حفل الختام وبرنامجه تابع سروة قائلاً: بدعوة من الدار واللجنة المنظمة للملتقى أطلّت جوقة مار أفرام السرياني البطريركية في الحفل النهائي لـ«ملتقى جوقات سورية» الثاني حيث قامت الجوقة في عرضها بتسليط الضوء على الموروث الشعبي الغنائي السرياني السوري في أصله وتاريخه والذي يعدّ واحداً من مكونات الموسيقا السورية, كما قامت الجوقة بأداء مجموعة من الأغاني التي تنتمي إلى المدرسة «الماردلّية» القديمة أي لمرحلة ما قبل القرن التاسع عشر, وأدّت الأغاني الشعبية السريانية السورية من القرن التاسع عشر 1920, وأناشيد باللغة السريانية من النمط الحديث 1970, ووصلة غنائية من أغاني «الجزيرة السورية»، كما سلطت الجوقة الضوء على التأثر والتأثير الكبير للموسيقا السريانية سواء الشعبية أو الدينية على الموسيقا العربية والمشرقية بشكل عام من خلال أداء بعض القطع لإظهار التشابه اللحني المقامي الكبير من الناحية الموسيقية, وكان البرنامج غنياً بتنوّع المقامات اللحنية والإيقاعات التي راعت الجوقة فيها الحفاظ على الهوية الموسيقية فقدمت ألحانها بطريقة «اليونيسون unison » أي الصوت الأحادي مع الاهتمام بتوزيع موسيقي يقارب روح الأغاني, وقد قام بالمساعدة بتحضيره السادة مداني عبو, مارك درويش, كابي حنا، وضمّت الجوقة 30 مشاركاً من أصل عددها البالغ 50 مرنماً ومرنمة.