«النّخبة الثّقافية» مصطلح لا يصلح لهذا الزّمن!!

يستخدم بعض النّاشطين ثقافياً، وبعض الأدباء في دعواتهم مصطلح «بمشاركة نخبة من»، متجاهلين المعنى الحقيقي للمصطلح ودلالاته وإمكانية استخدامه في الزّمن الحاضر، أو ربّما يدركون كل ماذكر ولكنّهم يعتقدون بأنهم نخبة مؤثّرة حقاً.
في المعنى العام، تدلّ كلمة أو مصطلح النّخبة على عدد من الأشخاص الأكثر قدرة من غيرهم، كما تدلّ على مجموعة منتخبة أو منتقاة من مجموعة اجتماعية سواء أكانت سياسية أو ثقافية أو إعلامية أو غيرها وعادةً ما تمارس نفوذها على هذه المجموعة بفضل مواهبها المفترضة، ويذهب البعض إلى القول إنّ النّخبة هم قادة رأي عام ويؤثّرون فيه ويشّكلونه، كما أنّ بعض القائمين على نشاطات كهذه ليسوا أفضل بكثير ممن يحضرها.
وأمّا من النّاحية البحثية والتّنظيرية، فيطلق مصطلح النّخبة المثقّفة «الأنتليجنسيا» على فئة من المتعلّمين المنخرطين في الأعمال الذّهنية المعقّدة التي لها دور نقدي وتوجيهي وقيادي في تشكيل ثقافة وسياسة مجتمعهم، وتضمّ «الأنتليجنسيا» فنانين ومعلمين وأكاديميين وكتّاباً ورجال حرف، ونشأ هذا المصطلح في أواخر القرن الثّامن عشر في بولندا، إذ صاغ المفكّر البولندي برونيسو ترينتوفسكي مصطلح الأنتليجنسيا «المفكرين» للدّلالة على الطّبقة الاجتماعية المتعلّمة والنّشطة، واختلف آنذاك حال ونشاط هذه النّخبة من بلد إلى آخر، فبينما حُرم المفكّرون من امتيازات كثيرة في أوروبا الشّرقية تمتّع نظراؤهم بدور مهمّ في أوروبا الغربية.
تنظيرياً، أدوار كثيرة على النّخبة أن تؤديها للنّهوض بالمجتمع أدبياً ومعرفياً وثقافياً وجمالياً وسياسياً وطنياً، وعليها أن تكتب وتنشر ما تكتبه ليصل إلى الجمهور وتحقق هدفها في التّأثير عليه لا أن تسعى إلى شهرة كاذبة أو مزيّفة أو مصلحة خاصّة أو منصب يستطيع من خلاله تحقيق أهدافه الشّخصية التي لن نخوض فيها الآن، وهذا ما لا نجده في واقعنا الثّقافي اليوم، فإنّ تحدّثنا عن جمهور بعض النّشاطات الثّقافية نجد أنّهم خليط قليل من أصدقاء ومعارف وعدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من المهتمّين فعلاً, وقد يتجاوزه إلى العشرة في بعض الأحيان، مع التّنويه دائماً بأنّه لايمكننا التّنبؤ بكمّ الجمهور ونوعيّته ولا باهتماماته أو عاداته الثّقافية، فهناك بعض الحفلات الموسيقية التي يحضرها المئات من المستمعين الجيدين والاختصاصيين والهواة ومحبّي«البريستيج» الذين في السّابق كان مصطلح النّخبة ينطبق عليهم اجتماعياً أي من حيث المال والسّلطة، مع العلم أنّ الموسيقي في مجتمعنا لا يعدّه الجمهور قائد رأي.. وهناك عروض مسرحية يحضرها المئات لكن بالاستماع إلى أحاديثهم أثناء العرض نعرف أنهم أتوا لرؤية ممثل بعينه أو ممثلة فقط.. وهنا لا يمكن أن نعدّ هذا الممثل مؤثّراً حقيقاً في هذا الجمهور لأنّ هؤلاء الشّباب يتمثّلون به شكلاً لا مضموناً على الأغلب.. وإنْ تحدّثنا بالتّأثير فكيف لمثقف أن يؤثّر في جمهور غير موجود وهمّه الأوّل والأخير أن يحصل على كفاف يومه؟, وكيف له أن يتأثّر بمثقفٍ نأى بنفسه عمّا حصل في بلده خلال سنوات الحرب عليه؟ ربّما يتفاعل مع منشوراته على صفحات الأزرق – الفيسبوك إعجاباً أو مجاملةً لكّنه في الحقيقة يدرك أنّه يكتب لأجل الكتابة فقط، وهو إن تعرّف إليه عن قرب سيلعن الّلحظة الّتي تعرّف إليه فيها، فهو لن يستغرق وقتاً طويلاً حتّى يعرف أنّ ما يكتبه ليس إلّا شعارات طنّانة وأسلوباً لكسب شعبية ولو افتراضية ومعجبات ومعجبين ليسجّل أرقاماً قياسية بكلمة “أعجبني”.
إذاً.. هل بعض المثقفين أهل لأن يكونوا قدوةً ونخبةً منتخبة تأخذ على عاتقها النّهوض بالمجتمع ثقافياً وفكرياً؟؟, للأسف حسب الحراك والواقع الثّقافي اليوم؛ فإنّ الجواب هو: كلا.. والأسباب كثيرة منها: عزلة المثقفين وبقاء بعضهم في أبراج عاجية لا ينزلون منها، وحصر نشاطاتهم بالمراكز الثّقافية والجلسات الرّسمية، أو جلسات الأهل والأصدقاء من المجال ذاته الضّيق، وكأنّهم يكتبون لبعضهم البعض ويقرؤون لبعضهم ـ طبعاً مع عدم التّنكر لبعض القرّاء المتناثرين هنا وهناك والذين لا سلطة لمثقف عليهم ولا تأثير له من قريب ولا من بعيد، ولن نخوض في أخلاقيات البعض من حيث احترام الآخر والجنس الآخر، فكم من برنامج حواري شاهدناه على القنوات العربية انتهى بمشاجرة بين الضّيوف المثقّفين سواء أكانوا محللين سياسيين أو أدباء أو صحفيين أو حتّى فنانين؟ هذا بالإضافة لما يتحفنا به البعض على صفحات التّواصل الاجتماعي من سلوكيات ومشكلات مختلفة، وطبعاً لا بدّ من التّذكير بالـ«مثقفين» الذي غزوا السّاحات مع بداية الحرب على سورية والآن لم يعد لهم وجود إلّا قلّة قليلة.

وكي نرى النصف الملآن من الكأس، نقول: إنّ المثقّف الحقيقي الذي يترجم تنظيره فعلاً والذي هو أهل للثّقة وأهل لأن يكون نخبة قائدة؛ للأسف لا يستطيع الوصول إلى الجمهور المستهدف لأنّه لا يملك مايملكه المزيّفون والمنافقون من أدوات ووسائل تتطلب مالاً كثيراً، كما أنّه مشغول في قراءاته وكتاباته وتأمين متطلبات حياته اليومية، لذلك هؤلاء نادراً ما يصلون إلى الشّهرة التي يُحققها الآخرون، فكم من مثقفين وباحثين لم نتعرّف إليهم إلا مصادفةً وربّما بعد فوات الأوان.
لأجل ما ذكر ـ وما لم يذكرـ يمكننا الاستعاضة عن مصطلح النّخبة بكلمات وعبارات أكثر تحديداً ودقةً مثل مجموعة من الأدباء والمثقفين أو عدد من الأدباء والمثقّفين، ولنساهم قليلاً باستخدام المصطلحات الأكثر دقًة وموضوعية بعيداً عن المبالغة والنّفاق والأنا المتضّخمة.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار