أطياف من المسيرة العلمية والإنسانية للعلاّمة الراحل عبد الإله نبهان

كثرة رحيل المبدعين الذين افتقدتهم مدينة حمص خلال عام تقريباً، دفعت بعض أحبتهم لتقديم ما يخفف هذا الفقد، ويترجم الوفاء لذكراهم, فإن كنا قد عرضنا للنصوص الشعرية التي تركها الفنان التشكيلي الراحل معتصم دالاتي، والتي اهتم بها وأخرجها للنور، مطبوعةً في كتاب، صديقه المهندس د. منقذ عبد المعين الملوحي. فنحن اليوم مع محطة وفاء أخرى للعلاّمة الراحل د. عبد الإله نبهان (1945- 2020)، أعدّها وحررها وطبعها في كتاب تلميذه المُحب د. حسان فلاح أوغلي، صدرت عن «شركة بستان هشام» في دمشق، وقد اغتنت هذه المحطة بأطياف الإبداع وبما يكتنزه الراحل نبهان في شخصيته الإنسانية والأدبية, فالكتاب ينمّ عن قدرة معدّه في تحرير مثل هذه الكتب، فقد تواصل مع محبي الراحل من أجيال متعددة، ومن أكثر من بلد عربي، لتكليفهم بكتابة شهادات فيه، وهم: أساتذة الراحل، أصدقاؤه، تلامذته, كما ضم الكتاب مقالات بحثية حول جهده العلمي والإبداعي، وشهادتين من زوجة الراحل وولده، ومختتماّ بسيرته العلمية.
قبسات
لم تكن الشهادات التي وردت في الكتاب لتضيء فقط شخصية الراحل الإبداعية، بل هي قبسات من تاريخ مدينة حمص أيضاً، فمنها يعرف القارئ أن الراحل كان أحد الذين ساهموا بتأسيس كلية الآداب في جامعة البعث، في عهدة د. أحمد دهمان عميداً للكلية، مع الراحل العلامة د. غازي مختار طليمات. هذا ما تشير إليه شهادتا د. دهمان، ود. عبد المجيد شيخ حسين رئيس جامعة البعث الأسبق, وأنه أشرف على نقل وترتيب أول مكتبتين خاصتين منحت من قبل أصحابها لكلية الآداب، وهما مكتبة الشاعر الراحل رفيق فاخوري، ومكتبة الأديب الراحل عبد المعين الملوحي.
أمّا أستاذه د. مازن المبارك فقد كتب: وجدت في دفتر ملاحظاتي العبارة التالية «عبد الإله نبهان طالب نبيه، مؤهل أكثر من غيره بثقافة أو معرفة بكثير من المصادر والمراجع في المكتبة العربية، ذو همة صالحة لمتابعة البحث والتحقيق», وعدتُ اليوم لأرى أن الحدس كان حقاً ويقيناً، وأنه، رحمه الله، لم يكذّب الظن فيه، فلقد كان حقاً من أنبه الطلاب، وأكثرهم معرفة بالكتب العربية، واهتماماً بالعلم، وهمة تبعث على النشاط العلمي كتابة وتأليفاً وتحقيقاً. وقد حققت السنون اللاحقة ما تنبأت به له في السنين السابقة, وتحت عنوان « الصديق الذي عرفت» كتب د. محمد رضوان الداية: د. نبهان من أصحاب الشخصية الواحدة يتعامل مع الناس على اختلاف مشاربهم ومع أهل العلم أستاذه وطالبه، ومع أصدقائه وزملاء العمل على وجه واحد من التعامل. وقوام ذلك الوجه الواحد: وضوح معالم الشخصية وضوحاً قلّ مثيله؛ وأخذ الأمور كبيرها وصغيرها بالأناة واللطف؛ ونبذ أي خلاف قد يقع بالابتسامة والعبارة الصريحة، وتفويت الفرصة على غضبة أو شدة؛ وطيبة القلب وسلامة السريرة وصفاء النفس. ومن معالم شخصيته روح الدعابة، واستحضار النكتة والطرفة. وكتب د. محمود السيد نائب رئيس مجمع اللغة العربية يشير إلى الخسارة الفادحة التي مني بها المجمع عندما فقد عالماً فاضلاً من العلماء الأجلاء، وذلك بفقد د. نبهان، الذي هو في نظر د. السيد من أعمدة مجمع اللغة العربية نظراً لما كان يجمع في شخصه من سعة الثقافة، وتعدد ضروبها. ود. السيد معجب أيما إعجاب بعلم النبهان الغزير وسعة اطلاعه، ورفعة مناقبه، وتعدد نتاجه الفكري تأليفاً وتحقيقاً وإنجازاً للبحوث والدراسات، ونشراً للمقالات النقدية والتثقيفية في عدد من المجلات المشهورة في وطننا العربي.
صداقة علمية وثقافية

ومن شهادات الأصدقاء التي هي كثيرة ومن أكثر من بلد عربي، مضى الشاعر والناقد د. سعد الدين كليب يروي المفاجأة الطيبة التي حدثت عام 1988 يوم حضر الراحل د. نبهان مناقشة أطروحة دكتوراه كليب في جامعة حلب، فكان ذلك فاتحة لصداقة علمية وثقافية متعددة المستويات ومفتوحة الأمد، فالراحل د. نبهان رجل نحويٌّ من الطراز الرفيع، ومحقق حصيف للتراث العربي، ومثقف ثقافة تراثية وعصرية مكينة، ومعنيّ بأعلام النهضة العربية قراءة وكتابة وتحقيقاً، وقبل هذا وذاك لم يكن اختصاصه النحو العربي، وهو شيخ من شيوخه الأجلاء، ليصرفه عن الشأن العام، فكانت له مداخلاته ومواقفه الحميدة التي تؤكد شخصية العالم المثقف فيه. وهو في ذلك يختلف عن الكثيرين ممن يضعون «الأكاديمية» حجاباً بينهم وبين الناس، أو بينهم وبين قضايا الشأن الاجتماعي العام. وكتب د.أحمد مطر العطية (أستاذ النحو في جامعة الملك سعود): سوف تشتاق إليك منابر العلم، والندوات الفكرية والأدبية والنقدية التي كانت تزخر بها مدينة حمص الأثيرة إلى قلبك، وأضاءت أكثر من شهادة على لقاء أو جلسة الأربعاء التي كانت تضم نخبة من مبدعي حمص، ومن بعض الوافدين إلى حمص من دمشق وحلب للتدريس بكلية الآداب، وتعقد في مقهى (جورة الشياح) في حي يحمل المقهى اسمه، ثم انتقلت الجلسة بعد هدم المقهى إلى مقهى الأندلس في حي آخر نهاية شارع عبد الحميد الدروبي، وهذه الجلسة لم نكن نعلم عنها الكثير إلاّ بشكل متأخر، وربما كثيرون من أبناء حمص لا يعلمون بها، فهذه الإشارة ضمن هذه الشهادات هي توثيق جيد لحدث ثقافي خارج دائرة الضوء. ومن تلك الشهادات للمسرحي فرحان بلبل، والشاعر مظهر الحجي، ومعدّ الكتّاب الذي كان أصغر أصدقاء الجلسة عمرياً.
منعطف هام
وإن كنا يجب ألّا ننحاز إلى شهادة، لكن تبقى شهادة الشاعر الحجي ذات أهمية كبيرة لأنها تضيء لنا كيف تشكلت شخصية الأديب الراحل د. عبد الإله نبهان، فقد مضى يقول في موضع منها عنه: كان انتقاله من مرحلة الدراسة الابتدائية إلى مرحلة الدراسة الإعدادية منعطفاً هاماً في حياته الغضة. كان قد أتقن القراءة، فكُلّف بمرافقة جده لأبيه المرحوم الشيخ طاهر نبهانن ومن هنا بدأت علاقته مع الكتب وانفتحت أمامه أبواب واسعة ربما لم يعها عقله الصغير حينذاك.(….) كان جده الشيخ مكفوف البصر، وكان عالماً مستنيراً متبحراً بعلوم الدين والدنيا. عُدّ واحداً من رجالات حركة النهضة التي دعا إليها الشيخ محمد عبده، وكان الشيخ طاهر على تواصل مع رجالاتها مثل رشيد رضا وغيره من دعاة النهضة. وكان الشيخ طاهر يمتلك مكتبة غنية متنوعة، ضمت كتب علوم القرآن والحديث والفقه والتصوّف وعلوم اللغة والأدب والتاريخ والفكر، وكانت لا تخلو من المجلات المهمة في زمنها. وفي أحضان هذه المكتبة التي آلت إليه بعد وفاة جدّه، نشأ الفتى عبد الإله، فامتلأت نفسه بها وتشرب حبها، فرفدها وأغناها بكل جديد حتى غدت واحدة من أكبر المكتبات الخاصة في سورية وأكثرها تنوعاً.
محبة التلاميذ

وتحت عنوان تلامذته، شارك د. اسماعيل مروة، الذي عدّ ذاته تلميذاً للراحل من دون أن يدرس على يديه بل تتلمذ على كتبه، وصحبته ومجالسه. أمّا د. باسم ميخائيل جبور فقد أضاء من جملة ما أضاء في شهادته على إلمام الراحل نبهان بأنساب العائلات الحمصية، فمضى يقول وأذكر جمعتني بأستاذي غير سهرة خاصة، فتعرفت على جانب آخر من شخصية العالم النحوي الجليل والأكاديمي الحصيف، والمحقق التراثي، ولمست خفة ظله وهذب حديثه كما أذهلتني موسوعيته المتميزة في علوم متعددة، وأذكر أنه بدأ الحديث عن أنساب العائلات الحمصية، ثم راح يحدثنا عن أعلام كبار تركوا بصماتهم في تاريخ حمص، وكانوا علامات فارقة في ثقافتها، وكأنه كان شاهد عيان عليها. فتخال عند سماع حديثه أنك تجالس ديك الجن الحمصي، وتسامر الشيخ أمين الجندي، وتستمع للشيخ عبد الحميد الزهراوي، وتحاور رفيق رزق سلوم. وكتبت تقول د. سمر الديوب: منك – أستاذي الغالي- تعلمت أن القوة الحقيقية لا تأتي من المقدرة الجسدية، بل تأتي من الإرادة العظيمة، التي لا تقهر، كنت تنوي أن تدنو من العظمة، فصرت عظيماً بتواضعك، وعلمتنا أن الثروة الحقيقية ثروة العلم، لا المال، وأننا ندنو من النجاح بمقدار ما نملك من الإرادة والتصميم لبلوغ هدفنا، منك تعلمنا أن الطامحين لا يمكن ترويضهم أبداً وأن المستحيل يأخذ وقتاً أطول فقط من الممكن. وكتب تلميذه الأحب معدّ الكتاب ومحرره د. حسان فلاح أوغلي، الذي لم يغالِ في إهداء الكتاب: إلى تلك الروح المتفردة/ إلى عبد الإله نبهان معلماً وإنساناً. كتب في خاتمة شهادته: ترى كم سنحتاج من الوقت لنتعوّد الغياب؟ صعبة هي الحياة من دون عبد الإله نبهان، حزينة هي حمص بعد أن فارقها، حزينة جامعتها ومدارسها وهي التي أمضى عمره فيها منارة للعلم، مجالسها التي كان خير من يتحدث فيها ويزينها بعلمه وأدبه وظرفه، ومقاهيها التي كان يلتف فيها حوله صفوة الصحب والأصدقاء، ودروبها التي كانت تألفه ويألفها. صعبٌ أن أختصر ما لا يختصر، عسيرٌ أن أكتب وأصطفي من مسيرتي مع أستاذ من النسق الأعلى علماً وحباً وروحاً، فالراحل لم يكن أستاذاً لي بقدر ما كان منارة حياة، فلروحه الباقية ما كان وسيكون من عرفان وحبّ، وله في عليائه ألف تحية وسلام.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار