ثائر زين الدّين: أثر الفنّ التّشكيلي في الأدب لا يخفى على الدّارس

«ما توقّفت عن التّفكير في موضوع الفن التّشكيلي والشّعر ولاسيّما أنّه كان يمثّل شطراً كبيراً من عملي على شعري نفسه، منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي تحت سطوة مؤثرات عميقة مختلفة، أهمّها سؤال الشّاعر نفسه: كيف يمكن للكاتب أن يعيش مستخدماً حاسة البصر أجمل استخدام؟» يقول الشّاعر والمترجم الدّكتور ثائر زين الدّين، موضّحاً: أواصر القربى بين هذين الوجهين الجميلين من وجوه النّشاط البشري كثيرة جداً ومنذ أقدم الأزمان، فقد شبّه هوراس عمل الشّاعر بعمل الفنان التّشكيلي ورأى أنّ الشّعر هو الصّور، وأظنّ أنّ صدى ما كتبه تردد في كلام كثير من الشّعراء والفنانين ومنهم تشارلز أنطوان كوبيل الذي قال في خطابه أمام الأكاديمية الملكية للرّسم والنّحت في عام 1741: «على الرّسام في أسلوبه الرّاقي أن يكون شاعراً».
ويضيف زين الدّين: إنّ أثر الفنّ التّشكيلي في الأدب أمر لا يخفي على الدّارس، ولن نبالغ إن قلنا إنّ “أرباب الأولمب” بل أرباب الدّيانات الوثنية المختلفة من إبداع النّحت بصورةٍ ما فإن كان الشّاعر قد خلق بطل الملحمة من مخيلته فإنّ المثال هو الذي خلق ذلك الإله الوثني، وهناك أرباب تحمل طابع فيدياس مثل زوس وأتينيه وهناك آلهة أخرى اتّسمت بسمات براكسيتيل مثل أفروديت والآلهة الفتية على غرار ديونيزوس وأبولون، وقد يرى البعض أنّ التّصوير سابق الشّعر، فلوحات «واتو» التّي تمثّل حلقات الغزل تقدّمت مسرحيات «ماريفو» الشّهيرة بالدّعابة ومراودة الحِسان، وكم أسعفت تماثيل الآلهة الأم عشتار في صورتها المعروفة في الجزيرة العربية بالعُزّى واللات ومناة شعراء الجاهلية، فشبّهوا حبيباتهم بالدّمى، يقول المرار بن منقذ:
قد نرى البيض بها مثل الدّمى لم يخنهنّ زمان مقشعر
يتلهينّ بنومات الضّحى راجحات الحلم والأنس خفر
وخلال استضافته في فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب وتحت عنوان «الشّاعر.. فناناً تشكيلياً» عرض زين الدّين لآراء ووجهات نظر مختلفة في هذا الموضوع، يقول: يرى بعض الباحثين أّنّ الكلمة سبقت التّصوير والنّحت وغيرهما من أجناس الفن التّشكيلي وألهمت الفنانين سواء أكانت شعراً أم نثراً روائع خالدة، ففي عصر النّهضة وما تلاه من قرون رُسمت لوحات عديدة من وحي الملهاة الإلهية للشّاعر الإيطالي دانتي.
وبانتقاله إلى المنطقة العربية، يقدّم زين الدّين نماذج من مراحل وتجارب مختلفة، يقول: وكم من شعراء عرب استلهموا الرّسوم المصرية الفرعونية فكانت سبباً رئيساً في ولادة أعمال أدبية خلّابة أو على الأقل صور بيانية عميقة، مستشهداً بما قاله الشّاعر المصري أمل دنقل:
أوهموني بأنّ السّرير سريري
أن قارب «رع»
سوف يحملني عبر نهر الأفاعي
لأولد في الصّبح ثانيةً.. إن سطع
فوق الورق المصقول
وضعوا رقمي دون اسم
وضعوا تذكرةَ الدّم
واسم المرض المجهول
أوهموني فصدّقت
وفي لوحة أخرى لدنقل المعنونة بـ«ضدّ من» والمرسومة بلونين فقط هما الأبيض والأسود يبرز الشّاعر كمصور ممتاز كما يصفه زين الدّين، يقول: في هذه القصيدة المكتوبة في المشفى يبدو الشّاعر رسّاماً ماهراً في فضاء اللوحة، يستخدم قلم الفحم ويتمكّن من حشد الدلالات الكامنة في وجدان الإنسان العربي وروحه حول هذين اللونين وقد يقلب دلالات اللون إلى نقيضها:
كلّ هذا البياض يذّكرني بالكفن!
فلماذا إذا متّ..
يأتي المعزّون متّشحين
بشارات لون الحداد؟
هل لأنّ السّواد
هو لون النّجاة من الموت
لون التّميمة ضدّ.. الزّمن
أمّا سورياً، وقريباً من تقنية رسم لوحة القصيدة بلونين، فيختار زين الدّين قصيدة «خارج السّرب» للشّاعر صقر عليشي المكوّنة من أربعة مقاطع، ويوضّح: لقد أراد الشّاعر من خلالها تقديم صورة جديدة على ما عهدناه من قبل، ويطلب منّا أن نستخدم حواسنا المختلفة في فهمها وتذوقها.. في هذه القصيدة نحن أمام فنّان يرسم ويرى أن ينهي لوحته وها هو ذا يحسّ بأنّ الأبيض البارد المحايد لا يمكنه وحده إنجاز لوحة تشكيلية، وأنّه لابدّ من لون آخر يخلق التّوازن في فضاء العمل، ولا شكّ في أنّ لوناً دافئاً كالأحمر هو المطلوب، تبدأ القصيدة بالتّالي:
صوت الحليب أبيض
أسمعه
يفيض من جوانب الإناء
تحليقة الّنورس بيضاء
تحطّ من مكانها المتعة
بين الأرض والسّماء..
وتنتهي هكذا:
لكنّ نظرة التّفاح
وحدها
حمراء
ويعرض زين الدّين لشاعر سوري آخر تنبّه إلى أهمية توظيف الّلون في القصيدة وهو الشّاعر محمد عمران، مستشهداً بقصيدته التي كتبها في بداية الثّمانينيات «الأزرق والأحمر»، ومنها نقتبس:
الأزرق المخذول قام
مشى على ثقل
ترنّح
وارتمى في حضرة الأحمر
والأزرق المقتول أرخى حلمه
وتوسّد الأحمر

وفي التّفصيل يقول زين الدّين: نحسّ في البداية بأنّ الشّاعر فصل بين هذين اللونين واستخدم الأزرق رمزاً لكلّ جميل ونقي وجعل الأحمر نقيضه، ليتبين لنا لاحقاً الصّراع الدّائر بين اللونين فالأحمر رمز للدّمار والدّماء، والأزرق رمز للحياة ويتداخلان وتكون الغلبة للأحمر، يقول عمران:
ينفجر الأحمر الأخوي
يمزّق آخر خيط من الأزرق المتلاشي
وألمح وجهك في جثةِ الظلّ طفلاً
من الدّم
وينوّه زين الدّين إلى مشكلة هذه القصيدة المتمثلة في كشفها رموزها منذ الأسطر الأولى وضيق دلالات اللونين المهيمنين، ويشير إلى تجربة سورية أخرى هي للشّاعر نزار بريك هنيدي، يوضّح: يتجلّى ذلك في قصيدة طويلة تحمل عنوان: «السّيرة الزّرقاء» وتقع في عشرة مقاطع و«ثلاثة هوامش»، ومن يقرأ القصيدة يكتشف أنّ الأزرق يتجاوز حدوده كواحد من ألوان الطّبيعة إلى ما هو أبعد بكثير يقول:
يا أزرق حوّم فوقي
طيف نهار
يا أزرق أشعل أوردتي
واحقن بوميضك أنسجتي
وارفع
عن عيني الأستار.

قد يعجبك ايضا
آخر الأخبار