بعقلٍ مليء بالأشكال والمحاكمات الشرقية.. فاتح مُدرّس شاهد حقيقي على عصرٍ من التشكيل
برغم أنّ حياته الفنية أخذت مسارها شبه الطبيعي؛ فامتدت وتوسعت وانتشرت، وأخذت انعطافاتها التي تليقُ بتجربة لونية امتدت لسنوات طويلة في الحركة التشكيلية السورية، حتى إنها كانت مُعاصرة لكل ظواهرها منذ جيل الرواد الأول، وحتى تسعينيات القرن الماضي، بما يعني أنّ الفنان فاتح المُدرس كان شاهداً على عصر التشكيل السوري منذ بدياته المُعاصرة وحتى مآلاته الأخيرة في خواتيم القرن العشرين.
ربما من هنا كانت هذه العلامة المُفارقة لهذه التجربة التي أكسبت صاحبها صفة «المعلّم»، وأشكّ أنّ فناناً سوريّاً عُرف بهذا اللقب غير فاتح المُدرس، برغم ما أشرنا إليه فإنّ هذه التجربة اللونية في المشهد التشكيلي السوري ذهبت في مناحيها بسلاسة, ومن دون منغصات تذكر سوى في مرحلة طفولةٍ بائسة، وهي بعكس الكثير من التجارب الفنية السورية التي صدمت بالعديد من الأمور الحياتية والمجتمعية وصلت معها حد المحنة.
وهكذا أمسى فاتح المُدرس الذي تُصنف تجربته على أنها من جيل الرواد الثاني في الحركة التشكيلية السورية، أمسى أحد أقطابها البارزين يوازي في التشكيل؛ أقطاب القصيدة السورية مثل أدونيس والماغوط ونزار قباني..
ومناسبة الحديث عن هذه التجربة اللونية في المشهد التشكيلي السوري؛ الكتاب الذي أصدرته مؤخراً الهيئة العامة السورية للكتاب – وزارة الثقافة لمجموعة من الباحثين والنقاد، منهم الفنان عبد الكريم فرج، والناقد سعد القاسم، الذي كان نتاج ندوة أقامتها الوزارة للحديث عن هذه التجربة الجمالية, ففاتح المُدرس ليس حكاية فنان تشكيلي، وليس أكاديمياً وأستاذاً، وليس قاصاً تسلّق عود النعنع، وشاعراً كتب القصيدة ذات شهرة؛ فاتح المُدرس كان كل هؤلاء ودفعة واحدة، وربما من هنا شكلت لوحته علامتها الفارقة.
ولد فاتح مُدرّس في حلب سنة 1922، وشهد باكراً مقتل أبيه على يد عصابة، فتولت عمة له رعايته، لكنه لم يستطع العيش معها بسبب اعتراضها على ميوله الفنية المُبكرة ووقوفها في وجه رغبته في الرسم، وأمام إلحاحه الشديد أعيد إلى أمه المُعدمة التي بذلت جهوداً شاقة لتنشئة أولادها، في الوقت الذي شجعت فيه اهتماماته الفنية، ومن هنا يُفسر النقاد؛ هذا الأثر الكبير لأمه في حياته اللاحقة تبدّى بظهورها في قسم كبير من لوحاته.
درس فاتح مُدرّس الفنون واللغة الإنكليزية في حلب، وشارك سنة 1947 في المعرض الأول للفنانين التشكيليين السوريين في مدرسة التجهيز الأولى بدمشق، كما نظّم سنة 1950 المعرض الأول لأعماله في نادي اللواء بحلب.. وكان عام 1952؛ العام الأهم في تجربة المدرس – على ما يروي الناقد سعد القاسم – ففيه شارك في معرضين أحدهما في الولايات المتحدة الأمريكية، والثاني في السويد، إلا أن الحدث الأهم كان نيل لوحته «كفر جنة» جائزة المعرض الثالث للفنون التشكيلية في المتحف الوطني بدمشق، وهي اللوحة التي عدّت فاتحة اتجاهات الحداثة في الفن التشكيلي السوري، وبعد ذلك سافر إلى إيطاليا حيث درس ست سنوات في أكاديمية الفنون الجميلة فيها، مرت فيها تجربته بتأثيرات سريالية، وهناك تعرّف إلى جان بول سارتر.
ومن ثمّ، وبعد تراكم خبرة وامتداد تجربة؛ استطاع أن يفتح الفضاءات الكبرى والعالمية للوحة التشكيلية السورية، فوضع المعايير والتقنيات والقياسات والألوان النابعة من قلب الأرض السورية، ووضعها في قلب المشهد التشكيلي العالمي.
يذكر الفنان الراحل عبد الكريم فرج؛ أنّ أحد أساتذة المدرس في روما سأله: هل تأثرت بالفن الإيطالي المُعاصر؟ فكان جوابه: قليلاً، وعندما استفسر لماذا قليلاً؟ أجابه: أنا عقلي مليء بالأشكال والمحاكمات الشرقية.. وهنا ربّت على كتفه, وقال له: أنت على الطريق الصحيح الصعب, ويُضيف فرج: استطاع الفنان المدرس صياغة مجمل معالجاته لعمله التصويري، في أن يُلخّص رموزه المُنتشرة في أرجاء اللوحة، ومن أهم رموزه كانت صورة المرأة التي قلما تُفارق لوحاته الفنية، وقد ظهرت لنا في مقدمة الرموز التي يُشير إليها بكل وضوح على أنها من أهم العناصر الوجدانية التي يحملها في ذاكرته، وقد تكررت أشكالها وتعابيرها في مختلف لوحاته، وهي من المعاني التي جعلها الفنان تتصدر التكوين.. كما أحبّ فاتح مدرس الفلاح والأرض الممتدة أمام بصره، لأنها تُرافقه كما رافقته أمه في حياته المُبتسمة أو الحزينة على حدٍّ سواء.
وكما يروي عبد الكريم فرج؛ فإنّ فاتح المدرس لم يرسم لوحات بانورامية واسعة المساحة، أو مترامية الأطراف، لأنه رأى أنّ الأحداث المباشرة والآنية هي التي تكوّن مفردات شعوره عندما تُخلق لتوها، حيث يسرع لتدوين آثارها بلمسات فرشاة ألوانه في لحظة مواجهتها لتقلب بقعاً وأشكالاً وخطوطاً هادئة، أو متوترة، وتنسج ثقافته الوجودية المتعايشة مع كل ما يُحيط به.. من هنا فإنّ بانوراما فاتح المدرس التصويرية؛ هي مجموعة لوحاته المتتابعة وصور رسومه المتعاقبة لحظة بلحظة وفي كل ساعة وكل يوم.. ويُضيف: ومهما حملت لوحته من عناوين، أو رصدت من أحداث بحرارة لاتعرف النضوب، ولا الجفاف، وباختزالها الفطري يزداد انبعاثها وتألقها كلما تقادمت مع الزمن، وبهذا المعنى يتجه نحو الطهارة التجريدية المبرّأة من الواقعية الآلية المدفوعة بفكر العولمة الماسحة للحضارات، وهو الذي قال: لقد بدأ الفن التشكيلي بخلع ثوبه الإنساني ليرتدي ثوب الإنسان الآلي، إنها حالة تستحق التأمل بشيءٍ من الدهشة والأسف.. وحياة المدرس كانت معطاء تجلت في مفردات لوحة أصبحت كسمة، أو ما يُشبه التوقيع أو العلامة الفارقة: «أم، أرض، بيئة آلام الناس، معاناة الفقراء والفلاحين»، وهو الشاهد الحقيقي لعصره كما يصفه أدونيس، فقد استطاع بفرشاته المخضبة بمداد ألوانه أن يعكس كل توترات حضوره مع ذاكرته، برسوم بعيدة عن الترتيب الشكلاني الهندسي المتأنق، حيث تداخلت رسومه مع هزيعٍ واضطراب، ومع هواجس وقلق، فأطلق فرشاة ألوانه في مغامرات لتكشف حقيقة الرؤية عبر ثنايا الخطوط ومساحات السطوح الملونة والمهاجرة إلى آفاق لا نهائية مبشرة، ولكنها أيضاً غامضة وتأملية..
ثمة أمران يراهما سعد القاسم أنهما شكّلا خصوصية فاتح المدرس؛ أولهما: إنه وثيق الصلة بالأدب والكلمة، لكنه أعطى القيم التشكيلية في اللوحة المكانة الأولى، وكان ممن حرروا اللوحة من تبعيتها للكلمة، وجعلوا منها «نصاً تشكيلياً» قائماً بذاته.. وثانيهما: نجاحه في إكساب مفاهيم الحداثة في الفن التشكيلي احترامهما حتى عند أكثر الناس تحفظاً، وذلك بفضل حضوره الثقافي والإبداعي الذي دفع بكثيرين لإعادة النظر في قناعات مسبقة، ومفاهيم شائعة.
ويرى القاسم أنّ أهمية المدرس تتجلى في ثلاثة اتجاهات: إبداعاته التشكيلية التي يلتقي الجميع عند تقديرها حتى لو اختلف مستوى تقبلها وفهمها، وثانيها: ريادته كفنان معلّم لمفاهيم الحداثة في الفن التشكيلي المرتبطة بالتاريخ والجغرافيا المحليين، كما هي مرتبطة براهن عصرنا، وأما ثالثهما: فكان في دوره المؤثر في الحياة الثقافية الذي ساهم من جهة في إكساب الفن التشكيلي ومفاهيم الحداثة الاحترام ضمن مجتمع لايزال سواده الأعظم ضعيف الصلة بهذا الفن من الأساس، كما ساهم من جهة ثانية في تأكيد ضرورة الثقافة والتقاء الفنون، ووجوب ألا يكون الاختصاص الإبداعي سبباً في عزل الفنان عن بقية أشكال الإبداع.
ونختم بهذا الرأي للناقد والفنان فرج يقول: لا يمتهن فاتح المدرس التصنّع أبداً، فأشكاله مختصرة، ومختزلة، وبليغة التعبير والارتباط في كل أحاسيسه، وفي كثير من أعماله يبلغنا حساً نقدياً ومنطلقات تاريخية ورمزية أشار إليها بوضوح في ألوانه: الأحمر، والأزرق، والأصفر وامتزاجهم مع الأسود والأوكر والبنفسجي وغيرها.. وجاء تصويره لموضوعاته، وهي تنأى عن السكونية الكلاسيكية المقننة، وكان دائماً باعثاً للعواطف والرؤى الحرة المنبثقة من أعماق صادقة ونقية، يؤلفها بإشارات حوارية تخص فلسفته الجمالية.