علي الدّندح يقشّر«برتقال أسود» بفرح الخائف وحذر العاشق
في غلاف «برتقال أسود» المجموعة الشّعرية الرّابعة للشّاعر علي الدّندح تضادّ كثير يشوّش على الأفكار ويغيّر وجهتها من الطّعم إلى الشّكل، فلا برتقال ـ لا أسود ولا برتقالياً ـ يغطيه بل تتوسطه فتاة غيّب وجهها برماد استطال من الطرف الآخر للغلاف, وترتدي فستاناً أحمر .. نتلمّس العنوان النّازف بطباعته النّافرة وبلونيه الأصفر والأبيض ـ لا الأسود ـ ونقرأ على يمينه بخط رفيع وباهت بضعاً من برتقاله الأسود:
تدفّق ـ كما كنت.. شمساً
تقسّم أشواقها في الجهات
وقمحاً يجوب البلاد
يدقّ بجذوة عشق
بيوت المفارق والسّنديان
وأنت أناي
ياحزن.. كن
جملةً في كتاب اليقين
وفصلاً من التوت والياسمين
ويتابع من القصيدة ذاتها لكن على الطّرف الآخر من الغلاف والمناقض للأوّل برماديته وبياضه واتزانه ربّما، ومنها نختار:
تقاطيع حرفك
تستنفر المكان المستحيل
ومن التّضاد إلى الكناية والتّشبيه والاستعارة التي وهبته إياها خبرته الحياتية، فالبرتقالة لديه قنبلة تجمع الجثث وتعصر الدّماء وتلوث الهواء برائحة الموت، يقول تحت عنوان: «قوس للرّصاص .. قوس للتّراب»:
أإسفلت هذي البلاد
طلاءٌ على قشرة القنبلة
هنا في الظّلام
وفي القاع جنبي
دموعٌ بلون الهواءِ
بلون الدّماء
والبرتقال لديه هو طلوع الشّمس وغروبها.. حزن بداية النّهار ونهايته.. حزن المعرفة وانتقاء «فضيلة العمى», وربّما اكتشاف الذّات والخوض في خفايا النّفس والفلسفة، يقول:
رغم الظّلام الذي يحتويك
تخيّرت نفسك منه
فلا روح إلّاك تسبح
في اللاوجود
فهل كنت تقرأ في السّر
وجه الصّباح الغريب؟!
تُصدّر للغيب حزنك
ها قد تفجّر وجه الصّباح..
دم البرتقال تصدّع..
دم البرتقال تصّدع وفاحت رائحة الجوع النّفسي والمعنوي والجسدي، جوع للحب والحياة والاستقرار والسلام والأمان وجوع البطون الخاوية، يقول تحت عنوان: «رائحة الجوع»:
كيف أخرج من شبق الطّين
ـ تخرج،
إن تبتكر للطّفولة
عرساً
تعلّق فيه التمائم والأغنيات
ورائحة الجوع
موتي الأخير
الرّحيل هو ما يؤرّق الرّوح دائماً سواء أكان رحيلاً قسرياً أو إرادياً، وفي هذا الموضوع يخوض علي الدّندح في عدد من القصائد وهو الذي اختبره مرّات كثيرة في المرّة الأولى اختبر الشوق والحنين لوالدته وداره الأولى، ومن قصيدته وحدي في الـ«هناك», وفي الـ«هنا» نقتبس:
وأنا هناك، بألف حكاية ورواية
وقصيدةٍ.. لم تكتمل فيها القوافي
فألوك أسئلتي، ويخذلني الحنين
ويعود في كلّي يقين
بأنّ أمّي لم تزل
في حوشنا المفتوح
ناطرة
وأنا هنا
استمطر الكلمات معنى للقاء
ولا لقاء
وفي المرّة الثّانية، حين اختبر مشاعر فقدانه للشّاعر عبد النّاصر الحمد، يقول في «بطاقة حزن لرحيل استثنائي»:
من أين ينبع اسمك
من أشجار النّخيل حول بيتك البعيد
أم من ينابيع وادي الفرات؟
ناصرٌ، ويجهش بالبكاء
الماء
ويقول في قصيدة أخرى:
ريحانة الشّعر
روح القلب لم يغب
غرّد بما شئت
لاتجزع من الصّخب
إلى قوله:
قد يكتب الشّعر
آلاف مؤلفة
لكن مثلك يبقى
شاعر الغرب
وعلى الهامش ينوّه الدّندح بمعنى كلمة «الغرب», وبأنّها نوع من الأشجار يلازم لنهر الفرات منذ آلاف السّنين، وهكذا كان الحمد ومثله أيضاً الدّندح متعلّقان بالفرات العذب الخالد، يقول:
يقول الفرات
كيف عرفتَ أنني أحمل لونك؟
فحملتَ إليّ شراب صباك
وشمس غروبك نحو البعيد
وقوس قزح
لايبتعد الدّندح في برتقاله الحزين عمّا يدور حولنا من مستجدات في حياتنا اليومية، فها هو يصف زمن (كورونا) المرض الذي داهمنا منذ سنة ونصف السنة تقريباً وقيّد تحرّكاتنا وأخذ من أخذ من أحبتنا وأصدقائنا، يقول:
في زمن الكورونا
لن يخبرك الكاهن
عن عين تلتقط اللحظة
من فنجان القهوة
في صبح حياتكَ والموت
لن تدري من قاتلك
ومن أين يجيء القاتل
أو أين يروح
وفي الغزل، يعود صاحب البرتقال إلى من يؤنس غربته ويحتوي الرّوح، فيقول في «صباح البرتقال»:
حلو صباحي
إذ أتاني
حاملاً في ضفّتيه
زهور همسك
بعد لون البرتقال
وهالة الصبح الوحيد
وإنّه لقياك
يسيل عصير البرتقال الحزين بالتّوازي مع «بسمة تيما» ووعد حبّ وتحليق غمامة، مستعيناً بما حفظت ذاكرة العين والرّوح والقلب من روائح الطّفولة وخيالها وصور الحياة، ومن قصيدة «الغمامة» نقتبس:
الغمامة ثوبٌ برائحة البحر
وشمسٌ يقود خطاها ولد
إلى أزل عالق في أبد
ذاكرة
لفت انتباه الشّاعر علي الكعود أيضاً في تقديمه المجموعة الشّعرية، إذ يقول: علي الدّندح.. خارج من شرنقة القمح، متدثّر بأنوثة القطن، حامل لفيروس الشّعر الذي ورثه عن سلالة المطر الذي يغسل وجه الخابور، فيظهر جلياً وجه جدّته الفارعة بنت طريف ترثي أخاها، فيتذكر وجوه الأحبة الذين غادروه على غفلةٍ من الشّعر، ليعصر برتقاله الأسود في كؤوس العذاب.. شاعر كان يراقب عند بوابة طفولته أمّه وهي تغزل خيوط القطن على نولها اليدوي فيكسب خبرة في غزل القصائد وإتقان فنّ إدارتها».. يكتب في هذا الدّيوان بكلّ الأشكال الشّعرية منهياً الخصومة بينها.
يذكر أنّ «برتقال أسود» صادر عن دار «العرّاب» في دمشق 2021.